- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الاقتصادي لا يضع البيض في سلة واحدة
واحد من الفروع المهمة التي يتناولها دارسو الاقتصاد في المراحل المتقدمة من الدراسة هو ما يعرف بالاقتصاد القياسي، وهو فرع حديث نسبيا بدأ في بدايات السبعينيات من القرن العشرين.. وهو مزيج من فنون الاقتصاد والرياضيات والاحصاء.. وطبعا ثمة جدل أزلي بين فريقين يتنازعان على عائدية هذا الفرع هما علماء الاقتصاد مقابل علماء الاحصاء وكل منهما يدعي الأحقية به، وهم يتنازعون حتى على تسميته، فجماعة الاحصاء يحلو لهم تسميته بالقياس الاقتصادي فيما يذهب جماعتنا الى الادعاء بانه علم الاقتصاد القياسي.
بالنسبة لي الأمر سيان وانا من المؤمنين بان العلوم متداخلة ولا فضل لأحدها على الآخر فهي تسير كالبنيان يرص بعضه بعضا..
وقبل ان اعرج على بعض الملاحظات حول هذا الفرع لا بد من اعطاء تصور عن المنهجية التي يستخدمها للوصول الى تحقيق غاياته... حيث ان واحدة من المهام الرئيسة التي يقوم بها هذا الفرع هي قياس تأثير متغير معين او مجموعة من المتغيرات (والتي تسمى متغيرات مستقلة او مؤثرة) على متغير آخر (يسمى متغيرا تابعا اي الذي يتبع او يتأثر بالتغيرات في المتغيرات المستقلة). وهكذا فانه يستطيع ان يبين بالأرقام والنسب مقدار تأثير كل من هذه المتغيرات على المتغير التابع.. لكن الجميل في أمر هذه القصة ان واحدة من المبادئ المهمة التي يتحرك من خلالها هذا الفرع هي إيمانه انه مهما استطاع الباحث من تجميع واضافة عدد من المتغيرات المستقلة للنموذج فانه لا يستطيع ان يصل الى علاقة نهائية تحديدية يمكن ان تخبرنا بان العلاقة قد ضبطت بمقدار 100 % اي ان ثمة هامشا من الخطأ يبقى موجودا، لذا فانه عادة ما تكتب المعادلات التي يستخدمها الاقتصاد القياسي بطريقة يضاف لها عامل آخر يسمى المتغير العشوائي او حد الخطأ ويعبر عنه عادة بالرمز U .. وهكذا فان المعدلات التي يستخدمها هذا الفرع تسمى معادلات غير تحديدية.
الانتاج الزراعي مثلا (كمتغير مستقل) قد تؤثر عليه عوامل معينه كالايدي العاملة ودرجة التقانة المستخدمة.. وقد تضاف عوامل اخرى مثل المناخ ونوعية الارض ويمكن ان تفسر هذه العوامل 80 او 90% من التغيرات في الانتاج الزراعي، لكن هذه العلاقة لا يمكن ان تصل الى الـ100% حيث انه مهما اضفنا من عوامل تؤثر على الانتاج الزراعي الا ان هامشا من الخطأ سيبقى موجودا.
عندما اقول ذلك فان هذا الامر علمنا نحن الاقتصاديين ان لا نضع مسببات ظاهرة ما في خانة واحدة بل ان يجري توزيعها بين جيوب مختلفة.. وهذا ما يدفعني انا شخصيا الى الاكثار من استخدام مفردات بعينها مثل ( قد، ربما، يمكن ان، ان واحدة من.. وغيرها).
الأمر يختلف مع السياسي بشكل كبير فهو حازم جازم يوجه سهام نقده الى خصومه بشكل مباشر، كما انه يستخدم كل الحجج بما يدعم موقفه دون ان يضع لنفسه (خط رجعه) ولا يضع حدا او هامشا للخطأ في تصريحاته او خطبه.. هذا الأمر برأيي مبرر في ضوء ما يعرف بالعراك او الحراك السياسي بين اللاعبين على الساحة .. لكن الأمر غير المبرر ان تنتقل هذه العدوى الى ساحة الاعلامي او الصحفي فتراه حازما حادا في مواقفه وتكون آراؤه مسخرة ضد شخص او جهة ما ومع جهة اخرى.. هذا الأمر خطير لجهة عدم ابراز الاعلامي جميع الأوجه المحيطة بالظاهرة قيد البحث او التحليل بل الاكتفاء بمتغير واحد او مجموعة من المتغيرات التي تؤيد وجهة نظره واهماله متغيرات اخرى او ما يعرف بحد الخطأ على حد توصيف الاقتصاد القياسي.
وهذه الصفة لا تتسق أبدا مع الحيادية التي لا بد لأي إعلامي أن يوصم بها.