لم تكن فقاعة الصابون يوماً ما مهمة كما هو الحال في أيامنا هذه ، فهي مضرب المثل على لسان كل اقتصادي و محلل مالي. و ما أزمة الرهون العقارية الأمريكية التي تعصف بالعالم اليوم إلا جزء بسيط من تداعيات أزمة اقتصادية عالمية تلوح في الأفق.
نعم ، لقد كانت النهضة الاقتصادية الكبرى و الانتعاش الاقتصادي الذي شهده العالم منذ سنوات قليلة ماضية مجرد فقاعة آن أوان انفجارها.
و أجد من المناسب هنا تسليط الضوء على بداية هذه الأزمة لنتمكن سوية من التفكير بحلول مناسبة تجعلنا أكثر أمناً و فهماً لما يدور حولنا بعيداً عن فقاعات المسلسلات التركية و فتن الطائفية و العرقية التي تعصف بعالمنا العربي و الإسلامي.
بدأت الأزمة الحالية مع منح البنوك الأمريكية قروضاً ميسّرة و أحياناً بدون ضمانات لأعداد كبيرة من الناس الراغبين بالاقتراض لشراء عقارات. مما أدى إلى ارتفاع جنوني في أسعار هذه العقارات بشكل يتعذر معه شراء المزيد منها. و عندما أرادت هذه البنوك استرداد هذه القروض تعذر على المقترضين سدادها فأصبحت ديوناً معدومة. و بالتالي فإن البنوك و في محاولة منها لاسترجاع الخسائر الناجمة عن هذه القروض المعدومة عمدت إلى سياسة رفع أسعار الفائدة. و في محاولة جديدة و يائسة من هذه البنوك لتعويض الخسائر لم تصرح هذه البنوك بحجم الديون المعدومة لديها و ذلك خوفاً من تدهور سمعتها في الأسواق و زعزعة ثقة المستثمرين فيها.
الأمر الذي أدّى إلى نقص كبير و خطير في السيولة النقدية بشكل باتت عاجزة معه عن متابعة نشاطها البنكي.
و لم يستغرق الأمر طويلاً حتى بدأت طوابير المودعين بالتراكم على أبواب هذه البنوك مطالبة بسحب ودائعها و بيع حصصها من الأسهم. و هذا بالطبع انعكس على استقرار أسواق المال العالمي و زعزعة الاستثمارات العالمية المترابطة مع بعضها البعض.
و من جانبه قام البنك المركزي الأمريكي و في محاولة منه لتفادي هذه الأزمة بضخ مبالغ مالية طائلة لدعم هذه البنوك و ضماناً لاستمرار أعمالها و عدم الوقع في أزمة الإفلاس. و لكن و على الرغم من أن الكونغرس الأمريكي قد وافق على خطة الإنقاذ هذه إلا أن الأسواق لا تزال تعاني من تداعيات هذه الأزمة التي تشير إلى أنها أكبر مما كان البعض يتصوره.
و في الحقيقة فإن بوادر الكساد العالمي باتت تلوح في الأفق و يبدو هذه جلياً في إفلاس العديد من الشركات الأمريكية و طرد عدد كبير من موظفيها. فالقدرة الشرائية للأسواق العالمية بدأت بالتقلص و ضعف السيولة النقدية بدأ يلقي بظلاله على الأسواق في كل مكان بما فيها أسواق النفط في الخليج العربي.
و يعود هذا بنا إلى ازمة الاقتصاد العالمي و الكساد الضخم التي سادت الأسواق سنة 1930 و شلّت مرافق الاقتصاد في الشرق و الغرب.
و يحاول بعض الاقتصاديين الرأسماليين طمأنة العالم بأن الأسواق سوف تقوم بعملية تصحيح ذاتي وفقاً لمبدأ العرض و الطلب. لكن يبدو أن الأزمة الحالية أصعب مما يتصوره هؤلاء .
و السؤال الذي يطرح نفسه : هل نحن أمام عصر اقتصاد عالمي جديد نودّع فيه عصر الرأسمالية ؟ و ما هو شكل هذا النظام القادم ؟
لا أريد أن أكون بعيد الخيال في أطروحتي و لكني أتصور أن الرأسمالية بدأت في السقوط . و على العالم التفكير بجدية بنظام اقتصادي جديد قائم على مبدأ التكافؤ من دون الهيمنة و الجشع و التسلط.
إن جشع النظام الرأسمالي جعله يستثمر أمواله الطائلة ليس لزيادة القدرة التنموية و الشرائية للدول الفقيرة (الغنية أصلاً) و لكن ليمتص ثرواتها و يحصرها في أيدي مجموعة من الدول ، معتقداً أنه بهذا سوف يكون قادراً على العيش بمفرده في هذا العالم المتعدد و المتنوع.
و اليوم يدفع هؤلاء ثمن نظرياتهم الاقتصادية الجشعة القائمة على تدوير الثروات بين الأغنياء و حرمان الآخرين منها.
و أتساءل هنا: ماذا لو كانت دول العالم الثالث - كما يحلو للبعض تسميتها - قادرة على تصدير منتجاتها (ليس الخام فقط) المصنعة محليّاً لهذه الدول الغنية ؟ ماذا لو فكّت أو (سُمِحَ) لدول الخليج أن تفك ارتباط عملاتها بالدولار الأمريكي ؟ ماذا لو كان بنك النقد الدولي بنكاً حقيقياً للتنمية و ليس للسيطرة على الشعوب ؟ هل كان الدولار سيبقى منخفضاً عند أدنى مستوياته ؟ هل كانت أمريكا ستعاني من البطالة ؟ هل كانت هذه البنوك تعاني من قلة مصادر التمويل أو السيولة ؟ الجواب بالطبع لا.
لكن ماذا نقول في نظام أثبت فشله في إدارة الأزمات بل إنه نظام يعيش على الأزمات و تصديرها إلى الأطراف.
أنا أشعر بالأسف أحياناً على بعض المنظرين الذي يخرجون علينا بنظريات تحرير الأسواق و التجارة العالمية الحرّة و الذين يتناسون عدم التكافؤ في الفرص. لقد تغاضى هؤلاء عن البحث و بشكل جدي و عملي في الاقتصاد كوسيلة من وسائل التنمية و الرفاهية للجميع و ليس كغاية لتجميع مراكز الغنى و السلطة.
إن مجالات الاستثمار في الدول (النامية) كبيرة و متعددة لكنها تبتدىء بقطاع الصحة كركن أساسي في عملية التنمية و لا تنتهي لأن مجال الاستثمار فيها مفتوح و كبير. و أتذكر كيف أن إحدى شركات التكنولوجيا الغربية قامت بصناعة كومبيوترات للفقراء في محاولة منها لنشر التكنولوجيا في بعض هذه الدول. و لا يغيب عن القارىء الكريم الكم الهائل من العقول و الأفكار التي لا تزال دفينة في دول العالم الثالث و التي تحتاج لمن يحتضنها و ينمّيها.
إن محاولات هنا و هناك تؤكد صحة ما نقول عن فوائد الاقتصاد إذا بني على أسس من التكافؤ و المساواة.
على الشركات العالمية و المؤسسات الاقتصادية أن تأخذ دوراً أكثر فاعلية في عملية التنمية الاقتصادية للشعوب و أن تستثمر في النواحي الاجتماعية أيضاً لأنها لا تقل أهمية عن البنى التحتية .
لقد سلّطت الأزمة الاقتصادية الحالية الضوء على الخلل في النظام الرأسمالي و أثبتت للعالم برمّته مدى الحاجة لنظام اقتصادي جديد أكثر شفافية و عدالة و ستكون الأيام القادمة هي الفيصل و الحكم.