عادت فنزويلا خلال الأسابيع الأخيرة إلى واجهة الاهتمام الأميركي والدولي، ليس بوصفها أزمة داخلية في أميركا اللاتينية، بل كساحة صراع متقدمة ضمن إعادة ترتيب أولويات القوة العالمية. دولة تطل على البحر الكاريبي، لكنها باتت حاضرة بقوة في حسابات الشرق الأوسط والعراق والخليج، بفعل ثقلها النفطي وقدرتها على التأثير في أسواق الطاقة وتوازنات النفوذ الدولي.
الولايات المتحدة، بقيادة الرئيس دونالد ترامب، تتعامل مع فنزويلا باعتبارها تهديدًا مباشرًا للأمن القومي. تصريحات ترامب بأن “أيام الرئيس نيكولاس مادورو أصبحت معدودة” ترافقت مع تصعيد عسكري غير مسبوق في البحر الكاريبي، شمل حاملة طائرات وسفنًا حربية وغواصات نووية وطائرات متطورة وآلاف الجنود في إطار عملية عسكرية سُمّيت “الرمح الجنوبي”. هذا الحشد، رغم تحفظات داخل الكونغرس ووجود تيار رافض للمغامرات الخارجية داخل قاعدة ترامب نفسها، يثير تساؤلًا جوهريًا: لماذا الآن؟
الذريعة الأميركية: المخدرات والهجرة
تُبرر واشنطن تحركاتها باتهام فنزويلا بلعب دور محوري في تهريب المخدرات والمهاجرين غير الشرعيين. ويجعل ترامب من هذا الملف ركيزة سياسية وانتخابية، مستندًا إلى أرقام تتحدث عن وفاة نحو 80 ألف أميركي سنويًا بسبب المخدرات.
غير أن المعطيات الدولية تكشف فجوة واضحة بين الخطاب والواقع. فتقارير الأمم المتحدة لعام 2025 تؤكد أن أكثر من 80% من إنتاج الكوكايين العالمي يأتي من كولومبيا وبيرو وبوليفيا، فيما يقتصر دور فنزويلا على كونها بلد عبور لنحو 10% من الشحنات. أما الفنتانيل، الأخطر على المجتمع الأميركي، فيُنقل عبر المكسيك ويُصنّع بمواد أولية قادمة من الصين، دون أدلة موثوقة على إنتاجه في فنزويلا.
في المقابل، تمثل الهجرة الفنزويلية أزمة حقيقية. فمنذ عام 2013، غادر البلاد نحو ثمانية ملايين شخص بفعل الانهيار الاقتصادي. ورغم أن نحو 1.2 مليون فقط وصلوا إلى الولايات المتحدة، فإن الرقم تحوّل إلى ملف انتخابي حساس، خصوصًا في ولايات حاسمة.
لكن، ورغم خطورة ملفي المخدرات والهجرة، فإنهما لا يفسران وحدهما هذا التصعيد العسكري واسع النطاق.
النفط: المحرك الرئيسي
الدافع الحقيقي يكمن في النفط والجغرافيا السياسية. تمتلك فنزويلا أكبر احتياطي نفطي مؤكد في العالم، يتجاوز 300 مليار برميل. إسقاط نظام مادورو يعني، من وجهة النظر الأميركية، فتح الباب أمام عودة الشركات النفطية الأميركية الكبرى التي خرجت من البلاد بعد قرارات التأميم عام 2007، مثل “إكسون موبيل” و”كونوكو فيليبس”.
اليوم، تنتج فنزويلا أقل من مليون برميل يوميًا، بعد أن كانت تنتج نحو ثلاثة ملايين برميل في التسعينيات. إعادة تأهيل القطاع ورفع الإنتاج سيزيدان المعروض العالمي، ويؤديان إلى خفض أسعار الوقود داخل الولايات المتحدة، وتقليل التضخم والفائدة، وهو هدف حاسم لإدارة ترامب مع اقتراب الانتخابات النصفية عام 2026.
إضافة إلى ذلك، تمنح السيطرة على النفط الفنزويلي واشنطن ورقة ضغط قوية في مواجهة الصين وروسيا وإيران، التي تمتلك استثمارات ومصالح استراتيجية في قطاع الطاقة الفنزويلي.
الحسابات السياسية الداخلية
داخليًا، يسعى ترامب إلى تحقيق “نصر سريع” يعزز صورته بوصفه رئيسًا قويًا في ملفات الجريمة والهجرة، خاصة مقارنة بإدارة بايدن. هذا الخطاب يلقى قبولًا واسعًا في ولايات مثل فلوريدا وتكساس.
فلوريدا تحديدًا تمثل مركز ثقل للعداء الأميركي التقليدي للأنظمة اليسارية في أميركا اللاتينية، وتضم جاليات فنزويلية وكوبية ونيكاراغوية معارضة بشدة لمادورو. هذه الكتلة، إلى جانب دعم شخصيات نافذة مثل ماركو روبيو، تشكل رصيدًا سياسيًا مهمًا لترامب.
العودة إلى مبدأ مونرو
في البعد الاستراتيجي الأعمق، يعكس التصعيد عودة واضحة لتفعيل مبدأ مونرو القائم على اعتبار أميركا اللاتينية مجال نفوذ حصري للولايات المتحدة، ومنع تمدد روسيا والصين في هذه المنطقة. “أميركا أولًا” لا تعني الانسحاب من العالم، بل إعادة تموضع القوة الأميركية في محيطها الجغرافي الحيوي.
الانعكاسات على العراق والشرق الأوسط
تداعيات المشهد الفنزويلي تتجاوز القارة الأميركية. عودة النفط الفنزويلي بكميات كبيرة ستؤدي إلى خفض الأسعار العالمية، ما سينعكس مباشرة على اقتصادات دول الخليج والعراق. في المقابل، أي انفجار عسكري أو فشل سياسي قد يرفع الأسعار مؤقتًا.
في هذا السياق، ترى إيران في انشغال واشنطن فرصة لهامش مناورة أوسع، فيما يراقب العراق التطورات بقلق بوصفه دولة نفطية تتأثر مباشرة بإعادة تشكيل أسواق الطاقة.
خلاصة
فنزويلا اليوم ليست أزمة داخلية، بل ساحة اختبار لاستراتيجية أميركية أوسع تُدار بلغة النفط والطاقة. ومن الكاريبي إلى الشرق الأوسط، تتشابك الحسابات، ويعود النفط مرة أخرى ليكون أداة مركزية في السياسة الدولية، ستصل ارتداداتها حتمًا إلى بغداد والخليج والمنطقة بأسرها.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!