بقلم: القاضي ناصر عمران
لا يستأثر القانون الجنائي بمفهوم الضحايا باعتباره مفهوما جنائيا خالصا الا بالقدر المتعلق بالمصلحة التي يضفي عليها القانون حمايته باعتبارها حقاً، والحق قيمة اجتماعية عليا تتجسد بالمصلحة التي يحميها القانون، وهذه الحماية تكون من خلال نصوص قانونية تجرم كل فعل ينتهك هذه المصلحة والمصالح تتعدد، وهي الأساس الذي يستند اليه المشرع في حل المشاكل التي يواجهها المجتمع من خلال نصوص التجريم والعقاب، ففلسفة التجريم تمثل المبادئ العامة التي ترسم الاتجاهات الأساسية للتجريم والعقاب وتسمى الأفعال المجرمة بالجرائم وتقسم ضمن مضمار التجريم الى جرائم تقليدية واخرى مستحدثة ومخالفات وجرائم اعتبارية تلحق بالجرائم المستحدثة.
ومن الجرائم المستحدثة ما تنطوي على مخالفات ادارية او عمرانية او صحية ويثار في بعض الانظمة القانونية الجنائية تسمية الجرائم الرضائية او الجرائم بلا ضحايا وتستند في رؤيتها، بان كلا من مرتكب الجريمة ومن وقع عليه الجرم يرغب في ممارسة النشاط المحظور وبالتالي فالأمر اقرب الى التنظيم من التجريم وقد اثير حولها الكثير من الجدل القانوني والأخلاقي فيما اذا كانت ضمن مساحات التجريم ام التنظيم والتعويل الرئيسي في الرؤية على أن الفعل يتم بالموافقة حيث يرى معارضو التجريم أنها تتعلق بالحريات الخاصة للأفراد والمضمونة دستوريا اضافة للقانون وان التجريم يقوم على اساس الفعل الذي ينتهك المصلحة المحمية في القانون وعلى ضوء ذلك فأن القانون يجب أن يتدخل فقط إذا كان هناك ضرر او خطر مباشر ورؤيتهم ترتبط بالفلسفة الليبرالية القائمة على اطلاق الحريات من مبدأ اقتصادي (دعه يعمل دعه يمر.. ) القى بظلاله على مختلف نواحي الحياة باعتبار الاقتصاد الصانع للتشريعات والقوانين والدعامة الرئيسية له وممارسة الحريات لا تُحدد إلا بالقدر الذي تمس فيه حرية الآخرين، والمبرر الذي يراه دعاة هذا الاتجاه في تنظيمها لا تجريمها أن التجريم يستنزف موارد الدولة المالية والبشرية في ملاحقة هذه الجرائم بدلاً من تكثيف الجهود باتجاه اهتمامات اخرى وجرائم اكثر خطورة ً، بينما من يؤيد التجريم لا التنظيم يرى ان هذه الافعال قد تؤدي إلى آثار مهمة وخطيرة تؤثر على المجتمع، مثالها جريمة التعاطي وان كانت تدخل ضمن مفهوم الجرائم بلا ضحايا بالنسبة الى مرتكب الفعل او مسمى الجرائم الرضائية فان التجريم ينصب على حماية الانسان والمجتمع في نظرة تعكس مدى اهمية دور السلطة العامة في فرض الجزاء برؤية راهنة ومستقبلية لآثار الفعل المُجرم. ان مصطلح الجرائم الرضائية او الجرائم بلا ضحايا يتناغم مع اتجاه في علم الاجرام يدرس الجرائم التي تكشف عن شخصية اجرامية وتكوين اجرامي لدى الجاني فحسب دون تلك الأفعال التي لا تستحق ان تدخل ضمن دراسة علم الاجرام في رؤية قانونية لتحجيم او تقسيط التجريم وهي رؤية ربما ينساق معها المشرعون باعتبار الموافقة على ارتكاب افعال مجرمة دون الاستناد الى عنصري الخطر والضرر باعتبار الموافقة على ارتكاب هذه الافعال نشأت بموافقة الطرفين ولا تشكل ضررا او خطرا بالمعنى القانوني لهما، وربما يرى البعض ايضاً من خلال ورود جريمة تعاطي المخدرات بشكل شخصي والذي تم ذكره في الكثير من القوانين الجنائية ومنها القانون الامريكي على ان الحال ينطبق على جريمة التعاطي الواردة في قانون المخدرات والمؤثرات العقلية رقم 50 لسنة 2017 او بعض المخالفات الاقتصادية و الادارية وهذا مجانب للصواب فالعقوبة غير مطلوبة بذاتها فذاتها شر محض، غير ان المنفعة التي تترتب عليها بحكم الضرورة الاجتماعية هي من تدفع السلطة العامة في اللجوء لاتخاذها وسيلة دفاع تدرأ بها المجتمع مستقبلا وانطلاقا من غرض العقوبة في تحقيق الردع العام والخاص اما بخصوص الجرائم الخاصة بالمخالفات وبعض الجنح فإنها تسقط من اعتبارات وحسابات علم الاجرام شأنها شأن الافعال غير الاجتماعية التي لاتعد جرائم في القانون والواقع ان هذا المنطق القانوني اولى بالتأييد واعتبار هذه الجرائم اقرب للتنظيم منها للتجريم فهذه الجرائم لا تكشف طبيعة اجرامية بقدر ما تكشف عوز اجتماعي واقتصادي وقلة ادراك في التعامل مع معطيات ومتطلبات المجتمع بمعنى ان القانون الجنائي لا يتدخل في تنظيم السلوك المجتمعي الانساني انما يتدخل في حماية المصالح وتحصينها بالنص العقابي.
وعلى ضوء ذلك فان المنطق القانوني السليم يوجب رفع الصفة التجريمية عن المخالفات وبعض جرائم الجنح المتعلقة بالآداب العامة والشؤون التنظيمية وادخالها ضمن النطاق التنظيمي الاداري وتحقيق هذا الامر سيمنح السلطات الادارية دورها التنظيمي بالمقابل سيخفف من اعمال السلطة التنفيذية المختصة بمتابعة هذه الجرائم والسلطة القضائية واستهلاك جهودهما البشرية والمالية ومن خلال ذلك على الجهات المختصة وبخاصة المشرع الجنائي ان يقوم بعملية تنقيح مستمرة للتشريعات وانتقاء الافعال التي تخرج من ساحة التجريم وايداعها ساحة التنظيم فقد آن الاوان الى مغادرة التقسيم التقليدي واعتبار المخالفات جرائم جنائية والاعتماد على تقسيم الجرائم الى جنايات وجنح بما يساهم في التخفيف من غلواء القوانين العقابية التي لا تتلاءم مع النظام الديمقراطي الجديد.
أقرأ ايضاً
- الجنائيَّة الدوليَّة وتحديات مواجهة جرائم الكيان الصهيوني
- الأخطاء الطبية.. جرائم صامتة تفتك بالفقراء
- جرائم الإيموجي