- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
العراق والتغير المناخي.. بين الهوس الإعلامي والواقع - الجزء الاول
بقلم: حسن الجنابي - وزير الموارد المائية الأسبق
بعض المسؤولين مغرمون بالمغالاة وتسويق التصريحات المزيفة بخصوص مواضيع تبعث الحيرة لدى المجتمع نظراً لصعوبة او استحالة قياسها، ولأنها غير مألوفة وغير معرّفة لدى عامة الناس مثل “التغير المناخي”، وغيره من مصطلحات. وهذا الأسفاف في استخدام المصطلحات يوفر “مهارباً” لهم وغطاءً يتخيلونه آمناً للجهل وزيف التصريحات وقلة معلومات القائلين بها. كمثال على تلك “المهارب” السهلة، مقابل المهمة الصعبة وهي عرض الحقائق وتثقيف المجتمع واستنهاض مكامن قوته وتماسكه، تأتي الفكرة الخادعة “أن العراق خامس دولة في العالم من حيث التأثر بالتغير المناخي».
في كل الأحوال سواءً كانت المرتبة التي يشغلها العراق في هذه القائمة الغامضة خامسة أو عاشرة، بعد المائة أو قبلها، فهي بالنتيجة لا تعني شيئاً للمجتمع. فالذي يهم البلاد والمجتمع هو القدرة على البقاء والتغلب على المصاعب وتحقيق الرفاهية والإستقرار، وليس مرتبة العراق في قائمة ضحايا القضاء والقدر، التي يمثلها هنا “التغير المناخي” المسوّق كحالة مستحيلة في العراق يسحق خصوبة أرضه، ويجفف انهاره وسواقيه، ويلوث تربته ومياهه، ويدمر أهواره وتأريخه الحضاري الممتد منذ عصر السومريين الى يومنا هذا.
يرافق تسويق “المرتبة الخامسة عالمياً” والهوس الإعلامي المشغول بالترويج الى منجزات ورقية، في ظل ظرف يستحيل فيه تحقيق منجزات أكبر من توفير الحد الأدنى من خدمة المياه، وهذه فيها عجز كبير بكل المقاييس، توجه في بعض الأحيان مفارز أمنية حكومية ضد المزارعين والقرى والتجمعات السكانية الريفية المعدمة بحجة “التجاوز” على سواقي وقنوات شبه جافة، كما حصل في محافظة المثنى مؤخراً على سبيل المثال لا الحصر.
تنتهي بعض تلك “الحملات” بمواجهات مختَلقة ولا مبرر لها بين السكان وموظفي الحكومة والقوة الأمنية المرافقة، تسهم في تعقيد طبيعة المشكلات الحياتية للتجمعات الريفية وتدفع بها الى مستويات أخطر، إذ تضع المواطنين تحت طائلة سلسلة إضافية من فقرات القانون تؤدي الى السجون والمعتقلات دون ان تسهم فعلياً في حل المشكلات الأقتصادية والبيئية والمائية التي كانت سبباً بالتجاوز في الأصل.
مما يزيد الطين بلة هو تناول تلك “الأشتباكات” كموضوع خَبَري، إذ تجري فيه شيطنة ظالمة وتمييزية ضد المواطنين.
فهؤلاء الذين تنعدم بهم سبل العيش الكريم ويحطم الجفاف حقولهم وممتلكاتهم، يُعرضون باعتبارهم “خارجين عن القانون” ومعتدين على أملاك الدولة، مقابل سعي يظهر الإجراءات الحكومية باعتبارها أقرب الى العدالة الإلهية ويجري تنفيذها بدقة متناهية وفق مسطرة العدالة التي لا حياد عنها، وهذه لا تؤيدها الوقائع ولنا حديث آخر حولها.
تمثل هذه المقاربة “الإعلامية” تعسفاً ان لم تكن مطبّاً من الأفضل تجنبه من قبل المنافذ الإعلامية الحكومية. فالحكومة بالنتيجة راعية للمجتمع بكل فئاته، وهي ليست خصماً حتى مع اؤلئك الذين اضطرتهم ظروف المعيشة والشحة الى ارتكاب مخالفات لا ترتكب في الظروف المعتادة.
لا شك أنه في الوقت الذي يجب فيه تأمين احترام القانون وتطبيقه على الجميع بدون محاباة او تمييز، لا ينبغي تأليب الرأي العام ضد مجموعات بشرية تفتقد القدرة على التكيف مع حالات ممتدة من جفاف المياه أو شحتها أو تلوثها، وهي تجد نفسها قريبة من كماشة الفقر المدقع وتواجه خطر النزوح وتفكك الأواصر الأسرية، دون اي مساعدات حكومية إغاثية كانت ام غيرها، للمساعدة في التغلب على مصاعب الحياة.
واقعاً لا يوجد تصنيف عالمي معتمد يظهر فيه العراق في المرتبة الخامسة من حيث التأثر بالتغير المناخي. فالتأثر بالتغير المناخي لا علاقة له بالحدود السياسية للبلدان، وهو ليس “زائراً” يتوقف عند الحدود في العراق ويهمل الكويت او سوريا او إيران مثلاً، لأنه ظاهرة عالمية (Global) وليست محلية. وبدون ذكر تفاصيل اخرى تفسر المعنى المقصود من إصطلاح “التغير المناخي” فلا معنى للحديث عنه لأنه سيكون مبهماً.
وهنا اجد من المناسب توضيح ضرورة التمييز بين قضيتين لهما علاقة بالتغير المناخي. القضية الأولى هي مديات التأثر بالظواهر المعروفة المرتبطة بالمناخ (أو الطقس السائد)، وهي ثلاثة أي الفيضانات والجفاف وارتفاع مناسيب البحر. وهنا فإن الدول العشرة التي تقع في ذيل القائمة، أي الأكثر تاثراً بالتغير المناخي الذي ينعكس بتواتر أو بشدة حدوث تلك الظواهر الهيدرولوجية، هي: أفعانستان، وبنغلاديش، وتشاد، وهايتي، وكينيا، وملاوي، والنيجر، والباكستان، والصومال، والسودان. وكما نرى لا وجود للعراق في المرتبة الخامسة !
والقضية الثانية هي قائمة الدول المصنفة حسب المؤشر القطري المتضمن مؤشرات الهشاشة مع مؤشرات الجهوزية. يتضمن مؤشر الهشاشة خدمات الأنظمة الإيكولوجية (كالأهوار والمسطحات المائية) والأغذية، والصحة، وظروف الأسكان (الإستيطان البشري)، او ألبنى التحتية، والمياه، وغيرها. أما مؤشر الجهوزية فيتضمن الإقتصاد، والحوكمة، والاستعداد الذاتي للمجتمع. تضم هذه القائمة 182 دولة، وفي حال إدماج مؤشرات الهشاشة والجهوزية يحتل العراق المرتبة 120 في التسلسل، اي توجد اكثر من ستين دولة تأتي بعده في هذه القائمة. أما أفضل خمسة دول فهي: النرويج، وفنلندا، وسويسرا والسويد، والدنمارك. في حين أن الدول الخمسة في ذيل القائمة هي: جمهورية الكونغو الديمقراطية، وارتيريا، وغينيا بيساو، وافريقيا الوسطى، وتشاد.
لذلك لا يوجد بهذا المعنى العلمي “مرتبة خامسة” للعراق من حيث التأثر بالتغير المناخي كما يحلو للبعض ان يسوّق في الفضائيات ادعاءً بمعرفة زائفة. فلا يمكن ولا يجوز التغطية على أمرين: الأول هو الفشل الحكومي في تحقيق الأستقرار السياسي والتنمية الإقتصادية وقيادة البلاد باتجاه التكيف وابتكار سياسات ذكية تناسب إمكانيات البلد. وهذا الفشل تتحمله الحكومات العراقية المتعاقبة على هذا البلد الذي سحقته الحروب المستمرة منذ عقود والتي انتجت فشلاً متراكماً يبدو معه تصحيح الأوضاع أقرب الى المستحيل منه الى الواقع. والأمر الثاني هو الجهل الذي يميز بعض الأفراد المسؤولين عن بعض هذه الملفات، وانا ادعوهم وبكل احترام الى الصمت بدلاً من تسويق المعلومات الخاطئة.
أقرأ ايضاً
- ضرائب مقترحة تقلق العراقيين والتخوف من سرقة قرن أخرى
- الأطر القانونية لعمل الأجنبي في القانون العراقي
- تفاوت العقوبة بين من يمارس القمار ومن يتولى إدارة صالاته في التشريع العراقي