بقلم: د. طلال فائق الكمالي
زيارة بابا الفاتيكان عدت تأريخية، وتأريخيتها تجلت بزيارة السيد السيستاني دامت بركاته، ولعل تصفح أكثر من مليار انسان للمواقع التي نقلت حيثيات الزيارة يعد خير دليل على أهميتها وآثارها على الصعيد الديني والسياسي والفكر الإنساني بنظمه الاجتماعية كافة، فقد سلطت أضواء الصحافة والاعلام على محطة لقاء البابا بشخص السيد واستفهامهم عما دار بينهما أكثر من المحطات الأخرى بما فيها زيارة (أور) التي كانت الداعي لزيارة العراق.
ونظرًا لما نقله الحبر الأعظم للفاتيكان عن شخص السيد وتأثره الواضح بمسحته الإيمانية والروحية التي تلمسها من مقر اقامته المتواضع في دربونة لم تسع سيارة البابا والموكب المرافق له فقد ترجل ليجتازها مشيا على الأقدام فلا سجاد احمر ولا ثيل صناعي، باب الدربونة صدئ وبلاطها عادي تركت كما هي ليصل الى باب لم يرتفع على الأبواب وقد تطال سقفه هامات الداخلين شاهد البابا بساطة مقتنياته، رأى عباءته البالية من سنين التي لم تستر جسده النحيف زهدًا بمغريات الحياة بل سترت العراق بكل أطيافه ومكوناته، ومن تجاعيد وجهه الذي ارتسمت عليها جراحات الإنسان اين ما كان وفي أي زمان، بعد كل تلك الصور التي انطبعت بذهن البابا عن واقع السيد وحقيقته، أكتفى مختزلاً بقوله عن السيد السيستاني: أنه رجل من رجال الله تعالى، وهكذا بات يتغنى بوصفه العالم، والإنسان، والواعي، وصاحب الهم، والمتواضع، الذي وسم جبينه بالخير والمحبة والانسانية.
في قبال ذلك نجد أنَّ اللقاء تكلل في التسليم بالبديهيات، والقيم الإنسانية، والرؤى القيمية المطلقة، وبالمشتركات وغض النظر عن النسبيات، كما تكلل برسم السياسات والتحديات التي تعصف بالمشروع القيمي والإنساني وحرية الشعوب والأمم، وإعلاء كلمة الحق.
من هنا نخلص إلى أنَّ دلالة الزيارة تمخضت عن قضايا عدة منها:
ضرورة فتح الحوار بين أئمة الشرائع السماوية خدمة للأمن المجتمعي وسلميته، واستقراراً للأوطان بكل أجناسها، واستنصاراً للفقراء والمستضعفين، وادامةً للمحبة والوئام، واشاعةً للحرية والعدل والصلاح، كما يمكن أنْ نستفيد من دلالة اللقاء أيضًا محورية العالم الإسلامي في بقاع الأرض وأثره في صناعة القرار وصياغته في مجال إشاعة السلام والأمن والأمان، ونبذ الفكر الإسلاميَ المتمثل بمدرسة أهل البيتَ للتطرف الفكري والديني والإرهاب بما فيه الإرهاب السياسي والعقدي والاجتماعي والاقتصادي، إذ كانت مباني فتاوى مدرسة النجف ومنطلقاتها الشرعية متمثلةً بسماحة السيد خير مثال لتجسيد تلك المثل في ساحة العراق الذي يعد عالماً مصغراً، ومن تلك الدلالات التأكيد على أهمية وجود علاقة بين الأديان أو الشرائع السماوية لتأمين المصالح العامة وسيادة لغة العقل على لغة المادة التي اكتسحت العالم وأفرغته من روح الحياة الطيبة، حتى باتت تشكل أزمة إنسانية واخلاقية حقيقية مست العالم من قمة رأسه إلى أخمس قدميه.
لم ينتهِ المشهد عند هذا الحد فحسب، بل توج اللقاء ببيان من مكتب سماحة السيد دام ظله، اتجهت بوصلة مضامينه إلى معانٍ متعددة كان جلها الآتي:
لا للعبث الفكري... نعم لرسالات السماء وقيمها الأخلاقية والإنسانية.
لا للعبودية بكل صورها... نعم لتوظيف مشتركات رؤى الشرائع السماوية والأرضية خدمةً للبشرية وتطلعاتها.
لا للإرهاب الفكري والسياسي والاقتصادي... نعم للسلم المجتمعي.
لا للتطبيع مع إسرائيل... نعم للحق الفلسطيني في أرضه المحتلة.
لا لهيمنة الدول العظمى وجبروتها... نعم لسيادة الأوطان وحق الشعوب بحكم أنفسهم بأنفسهم.
لا لوقوف الزعمات الدينية على التل... نعم لأخذ دورهم في احقاق الحق.
لا للازدواجية الزعامات الدينية... نعم لقول كلمة الحق في الظرفين الزماني والمكاني.
لا للشعارات البراقة باسم الدين... نعم للدين.
لا لدعوة التسامح والحوار وقبول الآخر فحسب... نعم لتجسيد تلك المثل وأعمالها في البلدان التي تدعي حرية الرأي والمعتقد.
لا للصراعات الدولية وتغليب المصالح الذاتية... نعم لتغليب المصلحة العامة بلغة العقل.
لا للحرب... نعم للسلام.
لا لربيع الدول العظمى... نعم لربيع الشعوب.
لا للحروب الناعمة... نعم لتلاقح الأفكار والرؤى.
لا للجريمة المنظمة... نعم للأمن والأمان.
لا لجعل العراق ساحة حرب... نعم لأمنه الوطني وأمنه الإقليمي.
لا لمسخ هوية العراق... نعم لتاريخه المجيد وحضارته العريقة.
لا لتجزئة العراق... نعم لوحدته ووحدة شعبه بكل دياناتهم وطوائفهم واعراقهم وجميع انتماءاتهم.