- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
ترميم العقد الاجتماعي العراقي
حجم النص
عباس الصباغ * لم يحظَ المشهد السيوسولوجي العراقي وطيلة العقود اللاحقة بعد تأسيس دولة العراق الحديثة 1921، بتفعيل حقيقي وفاعل لمقاربات العقد الاجتماعي social contract الحقيقي، ولاسيما في تلك العقود التي رزح فيها الشعب العراقي تحت نير الديكتاتورية البعثية سيئة الصيت،ويعرَّف العقد الاجتماعي بحسب الموسوعة الشاملة: (الحقوق والواجبات التي تنظِّم شؤون الحياة المشتركة، وقاعدة للتوفيق بين الإرادة العامة للجماعة والإرادات الفردية أو الجزئية المنضوية تحتها) أو هو الآليات التي تنظِّم حياة الناس داخل المجتمع والدولة وتقنِّن علاقة الأفراد فيما بينهم وعلاقتهم مع الدولة وفق أسس دولتية ومجتمعية صحيحة لاتخلُّ بأي طرف من أطراف تلك العلاقة وكما معمول به في الدول المتقدمة، فقد اتسمت تلك العقود العشرة منذ التأسيس الدولتي الاول وحتى التأسيس الدولتي الأخير2003 بالاضطرابات السياسية الحادة والانقلابات الدموية التي أطاحت بفرص الاستقرار المجتمعي وفرص الازدهار الاقتصادي والتآلف الأسري دفعة واحدة، كما ساهمت الديكتاتوريات المتعاقبة بزعزعة الاستقرار السايكلوجي للفرد العراقي الذي أصبح لايثق بالحاضر ويخاف من المستقبل ويحنُّ الى الماضي ويصفه دائما بالزمن الجميل , وهو ماأثَّر بالتالي على تماسك النسيج العائلي (وحدة الترابط داخل الأسرة الواحدة) وعلى خلخلة النسيج الأسري (وحدة الترابط داخل المجتمع الواحد) وعلى تماسك المكونات المجتمعية ككل (وحدة الترابط داخل النسيج المجمتعي العراقي ككل) فبدئ عدم التوازن والتهرؤ من البنية السايكلوجية القلقة للفرد العراقي الواحد (كفرد) ومن علاقته داخل الأسرة الواحدة المضطربة والمهيأة للتفتت كعائلة (التي عادة ماتتكون من مجموعة اسر) وانتقل عدم التوازن الى العلاقة العضوية بين أفراد الأسرة الواحدة أو بين مجموعة الأسر داخل البيت الواحد ومن ثم الى منظومة الأسر داخل الحي الواحد أو الزقاق الواحد أو المحلة الواحدة وحتى الى العشيرة الواحدة وانسحب عدم التوازن الى البناء العمودي للمجتمع فاستشرت عدة ظواهر سلبية أرجعت المجتمع العراقي (ومنه الأسرة العراقية والفرد العراقي ايضا) الى عصر ماقبل الدولة أو عصر الدول والمجتمعات اللامدينية والمتخلفة ومنها 1. ضعف الروابط العائلية داخل العائلة الواحدة مايشي بالتفكك والتشرذم الأسري ليس على مستوى الأسرة كنسق أفقي مجتمعي فحسب، وإنما على مستوى الأخلاق التي من المفترض أن تكون إسلامية، فبرزت ظاهرت عدم احترام الكبير أو الجيران أو التعدي على الحقوق العامة وصار التجاوز على كل ذلك أمرا مستساغا بعد أن كان عيبا خُلقيا واجتماعيا ناهيك عن الجانب الديني الذي يحرِّم كل ذلك 2. ضعف الروابط الأسرية وضمور صلة الرحم التي كانت سائدة في مجتمعنا منذ القدم، والرابطة الأسرية لاتعني فقط العلاقات الطيبة والايجابية بين الأسر التي ترتبط فيما بينها بصلة القرابة فقط بل وبصلة الجوار والصداقة والأخوّة والمصلحة أيضا 3. ضعف رابطة المواطنة مع الدولة العراقية نفسها وتفكك تلك العاطفة التي تربط المواطن بوطنه فحلَّت الطائفية والمذهبية والعشائرية والحزبوية والمناطقية محل العقد الاجتماعي فلم يعد هنالك وجود لعقد اجتماعي عراقي يربط المواطن بالأسرة والمجتمع أولا ويربطه ثانيا بالدولة كما يربط الدولة بالمواطن والمجتمع وينصهر الجميع في بودقة المواطنية الحقّة التي ينتج عنها أسرة متماسكة عائليا ومجتمع مترابط اسريا ودولة متماسكة مجتمعيا كما ينتج عن تلك المواطنية الترابط العضوي الفاعل بين المجتمعينِ الأهلي والسياسي (انسجام المجتمع الأهلي المكون من الأفراد والأسر المترابطينِ مع المجتمع السياسي المكون من الطبقة السياسية المفترض أن تكون منتخبة وفق أسس ديمقراطية شفافة . فتفعيل العقد الاجتماعي يبدأ من المربع الأول (المواطن والأسرة وعلاقتهما ببعض وهي العلاقة التي تُنتج مجتمعا ما) وينتهي بالمربع الأخير (الدولة وعلاقة المجتمع ككل بها وعلاقته بالدولة كحاضنة سياسية له) ولهذا فقد لفتت المرجعية الدينية العليا الرشيدة ممثلة بسماحة الإمام السيستاني (دام بقاؤه) ومن على منبر الجمعة في الصحن الحسيني المقدس، الأنظار إلى الخلل الكامن في المجتمع العراقي ووضعت يدها على الجرح ـ كما يقال ـ وأشارت الى مكمن الخلل الذي يبدأ من النواة الأولى للمجتمع وهي العائلة وعلاقة الأفراد فيما بينهم داخلها ومدى انسجامهم وترابطهم وتعاونهم وهو مايؤدي الى إنتاج مجتمع متراص يؤدي وظائفه كاملة في إنتاج الحكومة الرشيدة والدولة القوية، وليس الانطلاق من اللبنة الأولى للمجتمع والدولة وهي العائلة والفرد محض ترف فكري أو فلسفة اجتماعية جديدة بل ترجمة عملية للبرنامج الذي وضعه الله سبحانه في محكم كتابه المجيد (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا {النساء/36})، ولوصايا المعصومين عليهم السلام يتقدمهم النبي (صلى الله عليه واله) والذين وضعوا بسيرِهم العطرة جميع الأسس المجتمعية الصحيحة التي لو سار على هديها الناس لما اضطُرت المرجعية الرشيدة الى التنبيه الى الخطر الذي يداهم المجتمع العراقي. فالمرجعية الرشيدة بوصاياها الوطنية والسياسية والمجتمعية السديدة تُعد أول من سعى الى ترميم العقد الاجتماعي العراقي المتفتت . * كاتب عراقي
أقرأ ايضاً
- ضرائب مقترحة تقلق العراقيين والتخوف من سرقة قرن أخرى
- الأطر القانونية لعمل الأجنبي في القانون العراقي
- تفاوت العقوبة بين من يمارس القمار ومن يتولى إدارة صالاته في التشريع العراقي