- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
العالم: من قرية إلى .. شاشة !
حجم النص
بقلم: ناظم السعود لم اعد مؤمنا بالمقولة الشائعة التي تردد (العالم أصبح عبارة عن قرية صغيرة) فهذه العبارة " الجميلة في صياغتها " مجرد خدعة لا تستند الى اي حقيقة " ان كانت ملموسة او بصرية" برغم من أنها تعكس عيانا الوجود الطاغي على حياتنا اليومية لعوامل وتقنيات الانترنيت والاتصالات الحديثة وتقريب الحدود بين الدول والتجمعات، لكنني أرى أن هذا العالم (الذي يبدو كبيرا من الخارج) لم يعد كذلك في ظل وجود الثورة العلمية والتطورات التكنولوجية المتلاحقة التي قلصت المنظورات و المسافات وأزالت الحواجز (حد التذوييب والانمحاء) وأصبح بإمكاني مثلا - أنا الساكن بأطراف مدينة كربلاء - آن اتلفن وأشاهد صديقي الذي يسكن في أقصى الأرض بالصوت والصورة وأزوده وأتزود منه بالأخبار والمعلومات والمستجدات بلا تكلفة او رقابة او خوف!.العالم الآن (كما يراه ويلمسه الملايين من البشر) أصبح بيدي أنا مثلا فلا أكاد أفارقه فهو أمامي وتحت تصرفي بالبيت بل جنب سرير المرض.. اخترقه واستحصل وانهل منه ما أشاء ولذلك تحول العالم بالواقع المنظور من قرية الى.. شاشة، ودحرت المقولة القديمة (والمستهلكة) التي كانت تنظر الى العالم وكأنه غدا قرية بل المفارقة الصادمة ان الواقع العلمي والانترنيتي الجديد يخبرنا بأشكال مختلفة انه يهيمن اليوم على مفردات وتفاصيل البيت والمصائر والحاجات الفردية والرغبات البشرية (حتى غير المشروعة منها) وبذلك أصبح من المحال ان ننظر الى العالم وكأنه تصاغر الى قرية صغيرة فهذه جنحة بصرية وشعورية وعملية والأصح أن عالمنا قد تجمع في (شاشة) وأي قناعة أخرى ستدخلنا في دائرة الإيهام وهي قطعا ستنتسب الى مخلفات النظام الدولي القديم!.كنت في سطوري أعلاه ممهدا لحديث اليوم ومؤداه كيف تجمع عالمنا الكبير في " شاشة " محدودة سنجد فيها(بفعل تطور العلوم والتكنولوجيا) ما نريده من أشياء ومعارف وقيم وأحوال وملاحقات كنا نلهث حولها " ومن المستحيل ان ننال اغلبها " فإذا بها اليوم طوع أمرنا وتتجسد أمامنا بصريا باللحظة اثر " ضغطة زر واحدة " فما أقربها منّا ؟!.. وهنا وصلت إلى السؤال الذي أود طرحه منذ البداية: كيف تعامل المبدعون العراقيون مع هذه التطورات العلمية والمعرفية التي جعلت العالم مجرد شاشة تتساكن في بيوتنا بل هي قرب سرير أمراضنا وتحت إمرتنا؟! والصورة النظيرة لسؤال هام كهذا هي: كيف انعكس إبداعنا (في حقول الأدب والفن والمسرح والنقد)على الراهن الزمني وهل استجاب لما حوله من تطورات وتحديات أم تراه وقف متفرجا ومنتظرا فحسب ؟ من الصعوبة - ان لم يكن مستحيلا - ان نرسم هنا خطا بيانيا نوضح فيه مدى استجابة المبدع العراقي لتحديات بل هيمنة وسائل التطور والمستجدات التكنولوجية المستعرة حوله وتأثيرها عليه إنسانا ومشروعا منتجا وأنّى لنا ذلك وسط الخصوصية والفردية وغيرها من حقوق الإنسان التي تحيط به بل وستدفعنا إلى حقول الألغام ؟!.في المسرح العراقي هناك تجربة لافتة عملت على الإفادة او امتصاص لنموذج حداثي مما سمعنا به، فقد حدثني قبل سنوات الكاتب والمخرج الفنان جبار المشهداني عن عمل مسرحي مشترك بين العراق وأمريكا يتم الإعداد له في تلك الفترة ويتوزع فريق العمل الى شطرين بين بغداد وواشنطن ويقوم هو (أي جبار المشهداني) بعملية الإخراج من خلال شاشة الانترنيت ويتم التلقين من هنا وتتلقف" جماعة واشنطن" الأوامر والحركة وباقي التدريبات حتى يتم العرض هناك،وقد كلمت فريق العمل الأمريكي (وكل عناصره من العراق) أكثر من مرة ثم صمتت الأصوات واختفى العمل فجأة!وفي القصة قرأنا نماذج من (القصة التفاعلية) والتقينا بصاحبها صالح جبار محمد بل كتبنا عنها حديثا بحلقتين متصلتين وتساءلنا وقتها هل نحن أمام تجربة تفاعلية في القصة ؟ وللأسف فان النماذج التي قراناها قد أوصلتنا الى نتيجة سالبة: هذه تجربة ورقية برغم من كونها قد كتبت برؤى جماعية! وسنضطر للخروج بحصيلة نكوصية تجهر بعلانية ان التجربة العراقية قد حافظت على نمطيتها ولم تخرج عن معاطف التقليد ان كانت في الرواية أم في النقد والدراسة واللحن والموسيقى.. ولم يبق هناك إلا الشعر كي يخترق عالم التابوات والنمط هذا ويحقق الإضافة المرجوة في عالم حداثي ينتظر تحقيق الأثر النوعي من خلال التفرد في عالم عابر للهويات!.في شهر تموز من عام 2007 فاجأ الشاعر العراقي مشتاق عباس معن العالم كله بإصداره لمجموعته الشعرية ((تباريح رقمية لسيرة بعضها ازرق)) التي نشرها أولا في جهاز الحاسوب" فهذه القصيدة بأشكالها وألوانها وهندستها وأنغامها لا يمكن قراءتها وتملي معانيها من خلال الورق" قبل يعممها في مواقع النت وقد عدت هذه المجموعة رائدة عربيا من وقتها لانها حققت الجديد وكانت اصدق تمثيلا لاستجابة الحساسية العربية لأحدث أشكال التعبير الأدبي في عصر المعلوماتية كما ان الدارسين العرب ونقاد العراق قد زينوا شاعرنا بوشاح الريادة منذ ان اخرج رائعته، والغريب ان شاعرنا الرائد مشتاق عباس كان في مجموعته تلك مبدعا (صادما) للذائقة النمطية (وقد أطلقت عليها توصيفا آخر هو الكهفية) التي ترتضي دوما بالسكون والثبات والتشبث بما كان فأصبح من المفهوم ان تتبلد إحساساتها وتتخبط أقوالها أمام إبداع تأسيسي دهم تلكم الذائقات بما يشبه الأنوار الكاشفة والفاضحة في ذات الوقت، ومن جانب آخر مثل هذا النص الشعري / التفاعلي(والذي صنف على انه من منجزات الحداثة الثالثة) فرحة كبرى للمتنورين العرب وللمتطلعين لانجاز إبداعي عربي يتداخل ويتنافس مع إبداعات العصر ويحقق هوية شعرية متميزة بينها خصوصا وان مبدعها قد نشرها على مواقع الانتريت حصرا وجعلها متيسرة لكل من يمتلك " شاشة نت "،ولذلك بقيت هذه المجموعة فريدة من نوعها ولم يأت احد من الشعراء العرب او العراقيين بنص شعري واحد (لا 33 نصا كما في المجموعة) يكون نظيرا او شبيها بما جاء به شاعرنا العراقي،، ويبدو إننا سنحتاج أكثر من ثمان سنوات للوصول الى قصيدة تعلي الحداثة ونتفاخر بها!.
أقرأ ايضاً
- الرزق الحلال... آثاره بركاته خيراته
- نتائج التسريبات.. في الفضائيات قبل التحقيقات!
- القرآن وأوعية القلوب.. الشباب أنموذجاً