- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الخطاب الحسيني صوت هادر على مدى الزمان/ الجزء الرابع عشر
حجم النص
بقلم: عبود مزهر الكرخي ونكمل ما حصل من ملاحم خالدة في يوم عاشوراء الخالد والتي كان التزوير وتشويه الحقائق هي السمة الغالبة في تدوين واقعة الطف ولكن شمس الحقيقة لابد أن يشرق ولا يحجبها غربال الغش والتزوير لتتألق أحداث ملحمة عاشوراء تشع بتألقها الخالد ليحرق كل الأوكار والبيوت العفنة لكل ماكينات التحريف والغش والخداع ولتشع عاشوراء بشعاعها الجميل ولتصبح دستور عمل لكل ثائر وحر في العالم كله ولتسقط كل أدوات الكذب والتزوير في الحضيض وفي أسفل السافلين ليبقى الأمام الحسين(ع) ذلك المنهل والنبع الصافي الذي ينهل منه كل المؤمنين وكل الشرفاء في العالم الذين يؤمنون بقيم الحق والعدالة وليصبح عنوان للكرامة والعزة والكبرياء بكل معانيها وقيمها السامية والعظيمة. ولنعود إلى أكمال ما جرى في يوم الطف الخالد. واستحوذَ الشيطان على ابن سعد فوضع سهمه في كبد قوسه ثم رمى باتجاه معسكر الحسين(عليه السلام) وقال: (إشهدوا أني أولُ مَنْ رمى) ثم ارتمى الناس وتبارزوا.(1) فخاطب الإمام(عليه السلام) أصحابه قائلا: {قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لابد منه، فإن هذه السهام رسل القوم إليكم}.(2) قال: فعندها ضرب الحسين عليه السلام يده على لحيته وجعل يقول: {اشتد غضب الله على اليهود إذ جعلوا له ولداً، واشتد غضبه على النصارى إذ جعلوه ثالث ثلاثة، واشتد غضبه على المجوس إذ عبدوا الشمس والقمر دونه، واشتد غضبه على قوم اتفقت كلمتهم على قتل ابن بنت نبيهم. أما والله لا اجيبنهم إلى شيء مما يريدون حتى ألقى الله تعالى وأنا مخضب بدمي}.(3) فتوجهوا إلى القتال كالأُسود الضارية لا يبالون بالموت مستبشرين بلقاء الله جَلَّ جلاله، وكأنهم رأوا منازلهم مع النبيين والصديقين وعباده الصالحين، وكان لا يقتل منهم أحد حتى يقول: السلام عليك يا أبا عبد الله ويوصي أصحابه بأن يفدوا الإمام بالمهج والأرواح، واحتدمت المعركة بين الطرفين، (فكان لا يُقْتَلُ الرجل من أنصار الحسين(عليه السلام) حتى يَقْتل العشرة والعشرين)(4) وزالت الشمس وحضر وقت الصلاة، وها هو الحسين(عليه السلام) ينادي للصلاة وقد تحول الميدان عنده محراباً للجهاد والعبادة، ولم يكن في مقدور السيوف والأسنّة أن تحول بينه وبين الحضور في ساحة المناجاة والعروج إلى حظائر القدس وعوالم الجمال والجلال. قال: وحضرت صلاة الظهر، فأمر الحسين عليه السلام زهير بن القين وسعيد بن عبدالله الحنفي أن يتقدما أمامه بنصف من تخلف معه، ثم صلى بهم صلاة الخوف. فوصل إلى الحسين عليه السلام سهمٌ، فتقدم سعيد بن عبدالله الحنفي، ووقف يقيه بنفسه ما زال، ولا تخطى حتى سقط إلى الأرض وهو يقول: اللهم العنهم لعن عادٍ وثمود، اللهم أبلغ نبيك عني السلام، وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح، فإني أردت ثوابك في نصر ذرية نبيك، ثم قضى نحبه رضوان الله عليه، فوجد به ثلاثة عشر سهمأً سوى ما به من ضرب السيوف وطعن الرماح.(5) استمرت رحى الحرب تدور في ساحة كربلاء، واستمر معه شلاّل الدم المقدس يجري ليتخذ طريقه عبر نهر الخلود، وأصحابُ الحسين(عليه السلام) يتساقطون الواحد تلو الآخر، وقد أثخنوا جيش العدو بالجراح وأرهقوه بالقتل، فتصايح رجال عمر بن سعد: لو استمرت الحرب برازاً بيننا وبينهم لأتوا على آخِرنا. لنهجم عليهم مرة واحدة، ولنرشقهم بالنبال والحجارة. فبدأ الهجوم والزحف نحو من بقي مع الحسين(عليه السلام) وأحاطوا بهم من جهات متعددة مستخدمين كل أدوات القتل وأساليبه الدنيئة حتى قتلوا أكثر جنود المعسكر الحسيني من الصحابة. ولم يزل يتقدّم رجل رجل من أصحابه فيقتل، حتّى لم يبق مع الحسين (عليه السلام) إِلاّ أهل بيته خاصّةً.(6) ونحن ذكرنا من قبل أن المعركة بالمعنى العسكري والمادي هي ليست متكافئة إذ كان 30 ألف مقابل ثلاثة وسبعين فكيف تكون كفة المعركة مع العلم أن أسلوب المعركة هي ليست بالمبارزة بل بالهجوم على أي فارس من معسكر الحسين بالسهام وبالأشخاص وحتى بالحجارة وبمختلف الأسلحة من أجل الفتك به وهذا هو أسلوب الجبناء والغدرة لأنهم يعرفون أن هؤلاء الثلة هم من فرسان الهيجا والفرسان المعروفين بشدتهم ومراسهم في الحرب وأغلبهم تلاميذ الأمام علي(ع) ولهذا أن تم قتل الأصحاب المنتجبين وأهل بيته بطريقة وحشية وغادرة وهي بدايات القتل والتمثيل والإرهاب والذي أستمر ولحد يومنا هذا بتقطيع الرؤوس ورفعها على الرماح في منظر مقزز ويشمئز كل إنسان ولا يمت بديننا الحنيف بأي صلة وهو براء من هذه الأفعال كبراءة الذئب من دم يوسف لأننا نؤمن بدين هو دين الرحمة والمودة والتآخي ونبينا الأكرم محمد(ص)هو نبي الرحمة والذي وصفه الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه القرآن إذ يقول {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}.(7) وهناك من يتبنى قطع الرؤوس واللعب به ككرة القدم والتباهي بهذا التمثيل للجثث والذي لم يقم به أياً من الأولين والآخرين ليصل حتى إلى حرق البشر والاستناد في ذلك إلى مقولات شيخ الوهابية ومعلمهم الأول أبن تيمية والذي هو كان يمثل بداية خلق التطرف في ديننا الحنيف والذي خلق البدع وأدخلها في ديننا الحنيف والتي ما أتى الله بها من سلطان وهذا هو باعتراف الكثير من علماء أهل السنة وأقروا بعدم جواز تلك الفتاوي وإنها بدعة وأنزلت بغير سلطان ليصل الأمر بأن تلميذه الذهبي قد كفره وأطلق أشنع الأوصاف في وصف هذا الشيخ أبن تيمية لذلك كان الحافظ الذهبي يشكو منه ذلك ويقول له في رسالة طويلة نأخذ منها ما يهمنا"...إلى متى تمدح كلامك بكيفية لا تمدح والله بها أحاديث الصحيحين ؟ يا ليت أحاديث الصحيحين تسلم منك. بل في كل وقت تغير عليها بالتضعيف والإهدار، أو بالتأويل والإنكار، أما آن لك أن ترعوي ؟ ".(8)أي وصفه بالكذب والتحريف. وقد اجمع علماء السنة بالقول عنه ومنهم بن حجر في " الفتاوى الحديثية " فقال: "ابن تيمية عبد خذله الله وأضله وأعماه وأصمه وأذله.. وبذلك صرح الأئمة الذين بينوا فساد أحواله وكذب أقواله.. ومن أراد ذلك فعليه بمطالعة كلام الإمام المجتهد المتفق على إمامته وبلوغه مرتبة الاجتهاد أبي الحسن السبكي، وولده التاج، والشيخ الإمام العز بن جماعة، وأهل عصره وغيرهم من الشافعية والمالكية والحنفية.. قال: والحاصل أن لا يقام لكلامه وزن، وأن يرمى في كل وعر وحزن.. ويعتقد فيه أنه مبتدع ضال مضل غال، عامله لله بعدله، وأجارنا من مثل طريقته وعقيدته وفعله، آمين".(9)وهو يسمى عند البعض بشيخ الإسلام ويطلق عليه العديد من الألقاب ويبدو أنهم لم يطلعوا على ماقاله شيوخهم علماؤهم عن هذا الشخص وهذا هو ما نطلق عليه بالتضليل الديني والجهل لدى عامتهم والذي نسأل الله لهم الهداة. مقتل علي الأكبر (عليه السلام) لم يبق مع الحسين (عليه السلام) إِلاّ أهل بيته خاصّةً. فتقدّم ابنه عليّ بن الحسين (عليه السلام) ـ وأمه ليلى بنت أبي مرّة بن عروة بن مسعود الثّقفيّ ـ وكان من أصبح النّاس وجهاً، فشدَّ على النّاس وهو يقول: أنا علي بن الحسين *** نحن وبيت الله أولى بالنبي تالله لا يحكم فينا ابن الدَّعي وفي روايات خروج شبل الحسين علي الأكبر للقتال حيث يذكر أنه خرجت روح الحسين عليه السلام من الحزن والبكاء والانكسار بقلبه عليه السلام وكان الحسين في حالة يرثى لها، ففقد الأبناء عظيم وعظيم على قلوب الآباء وخاصة إن كان أبن مثل علي الأكبر أشبه الناس بجده المصطفى، نعم في تلك الحالة جرت دموع الوداع بين الإمام الحسين المظلوم وبين ولده الذي آلمته نار العطش والتي كانت تستعر بقلبه، وقد وقف أمام أبيه الحسين واستأذنه بالخروج. فنظر إليه نظرة آيس منه، وأرخى عليه السلام عينه وبكى. ثم قال: {اللهم اشهد، فقد برز إليهم غلامٌ أشبه الناس خلقاً وخلقاً ومنطقاً برسولك صلى الله عليه وآله، وكنا إذا اشتقنا إلى نبيك نظرنا إليه}. فصاح وقال: {يابن سعد قطع الله رحمك كما قطعت رحمي}. وتقدم عليه السلام نحو القوم، فقاتل قتالاً شديداً وقتل جمعاً كثيراً. وكان الحسين (ع) حينما واقفاً بباب الخيمة، وليلى أم الأكبر تنظر في وجه الحسين (ع)، فتراه مسروراً بشجاعة ولده الأكبر، وإذا بها ترى وجه الحسين (ع) قد تغير فجأة، فبادرتهُ بالسؤال مذهولةً: "سيدي أرى وجهك قد تغير، هل أصيب ولدي بشيء"؟ فقال لها الحسين (ع): "لا يا ليلى، ولكن برز اليه من يخاف منه عليه، يا ليلى ادعي لولدك فإن دعاء الام مستجاب بحق ولدها". دخلت ليلى الخيمة، ورفعت يديها إلى السماء قائلة: "إلهي بغربة أبي عبد الله، إلهي بعطش أبي عبد الله، ياراد يوسف إلى يعقوب أردد إلي ولدي علي" فاستجاب الله دعاء ليلى، ونصر علي الأكبر على بكر بن غانم فقتلهُ، وجاء الى أبيه، وهو يقول: صيد الملوك أرانب وثعالب *** وإذا برزت فصيدي الأبطال وأقبل الأكبر بعد ان قتل بكر بن غانم إلى أبيه يطلب شربة من الماء، وهو يقول: "يا أبه العطش قتلني، وثقل الحديد قد أجهدني، فهل الى شربة ماء من سبيل أتقوى بها على الأعداء". فأجابه الحسين (ع): "بني علي اصبر قليلاً، سيسيقيك جدك المصطفى، بكأسه الأوفى شربةً لا تظمأ بعدها أبداً". ثم قال له: "ولدي علي اذهب الى امك وادركها قبل ان تموت، فإنها مغمى عليها في الخيمة". ففعل ذلك مراراً وأهل الكوفة يتَّقون قتله، فبصر به مرّة بن منقذ العبديّ فقال: عليَّ آثام العرب إن مرَّ بي يفعل مثل ذلك إن لم اثكل أباه ; فمرَّ يشدُّ على النّاس كما مرَّ في الأوّل، فاعترضه مرّة بن منقذ فطعنه فصرع، واحتوشه القومُ فقطّعوه بأسيافهم أبتاه عليك مني السلام، هذا جدي يقرؤك السلام ويقول لك: عجل القدوم علينا، ثم شهق شهقة فمات.(10) فجاء الحسين (عليه السلام) حتّى وقف عليه فقال: {قتل الله قوماً قتلوك يا بنيَّ، ما أجرأَهم على الرّحمن وعلى انتهاك حرمة الرّسول!} وانهملت عيناه بالدُّموع ثمّ قال: {على الدُّنيا بعدك العفا}. وخرجت زينب أخت الحسين مسرعةً تنادي: يا أُخيّاه وابن أُخيّاه، وجاءت حتّى أكبّت عليه، فأخذ الحسينُ برأسها فردَّها إلى الفسطاط، وأمر فتيانه فقال: (احملوا أخاكم) فحملوه حتّى وضعوه بين يدي الفسطاط الّذي كانوا يقاتلون أمامه.(11) وفي رواية أخرى، واستغاث بابيه الحسين مناديا: أبه عليك مني السلام، يا أبتاه أدركني، سمع صوته الحسين، يا أبتاه هذا جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد سقاني بكأسه الأوفى شربة لا أظمأ بعدها أبداً وهو يقول: العجل العجل!! فـإن لك كأساً مذخورة حتى تشربها الساعـةأقبل اليه، كشف عنه الأعداء، جلس عنده: {بني لعن الله قوما قتلوك ما أجرأهم على الرحمن وعلى انتهاك حرمة الرسول، بني، بني علي، على الدنيا بعدك العفا}.(12) واقبل الإمام الحسين إلى فتيان بني هاشم وقال: احملوا أخاكم فحملوه من مصرعه فجاءوا به حتى وضعوه عند الفسطاط الذي كانوا يقاتلون أمامه.(13) ويظهـر من ذلك أن علي الأكبر كان أول شهيد من بني هاشـم. كما جاء في حديث مأثور عن الإمام الباقـر (عليه السلام).(14) أبا الفضل العباس (عليه السلام): وهذه الشخصية التي تكنى بكنى عديدة ولكن أحب إلى نفسي هي قمر بني هاشم فهو بطل مغوار قلما أنجب التاريخ مثله وواسى أخوه الحسين (ع) في واقعة الطف وكان نعم الأخ النجيب لأخيه والمدافع الأمين وأذهل الأعداء ببسالته النادرة ويصف الباحث والمؤرخ محمد باقر القريشي هذه الشخصية الفذة بقوله" وبرز أبو الفضل العباس (عليه السلام) على مسرح التاريخ الإسلامي كأعظم قائد فذّ لم تعرف له الإنسانية نظيراً في بطولاته النادرة بل ولا في سائر مُثله الأخرى التي استوعبت ـ بفخر ـ جميع لغات الأرض. لقد أبدى أبو الفضل يوم ألطف من الصمود الهائل، والإرادة الصلبة ما يفوق الوصف، فكان برباطة جأشه، وقوّة عزيمته جيشاً لا يقهر فقد أرعب عسكر ابن زياد، وهزمهم نفسيّاً، كما هزمهم في ميادين الحرب.أن بطولات أبي الفضل كانت ولا تزال حديث الناس في مختلف العصور، فلم يشاهدوا رجلاً واحداً مثقلاً بالهموم والنكبات يحمل على جيش مكثّف مدعّم بجميع آلات الحرب قد ضمّ عشرات الآلاف من المشاة وغيرهم فيلحق بهم أفدح الخسائر من معداتهم وجنودهم، ويقول المؤرخون عن بسالته ـ يوم ألطف ـ إنه كلما حمل على كتيبة تفرّ منهزمة من بين يديه يسحق بعضها بعضاً قد خيّم عليها الموت، واستولى عليها الفزع والذعر قد خلعت منها الأفئدة والقلوب، ولم تغن عنها كثرتها شيئاً.أن شجاعة أبي الفضل وسائر مواهبه ومزاياه مما تدعو إلى الاعتزاز".(15) واستشهد أبا الفضل عليه السلام وله من العمر سبعة وثلاثون سنة بين يدي أبا عبد الله الحسين (ع) بعد تكاثر الأعداء والمجرمين" وحمل الأثير محنته إلى أخيه فمزّقت قلبه، ومزّقت أحشاءه، وانطلق نحو نهر العلقمي حيث هوى إلى جنبه أبو الفضل، واقتحم جيوش الأعداء، فوقف على جثمان أخيه فألقى بنفسه عليه، وجعل يضمخه بدموع عينيه، وهو يلفظ شظايا قلبه الذي مزّقته الكوارث قائلاً: « الآن انكسر ظهري، وقلّت حيلتي، وشمت بي عدويّ... ». وجعل إمام الهدى يطيل النظر إلى جثمان أخيه، وقد انهارت قواه، وانهدّ ركنه وتبددت جميع آماله وودّ أن الموت قد وافاه قبله".(16) وقال وهو في الرمق الأخير{السلام عليك يا سيدي ومولاي يا أبا عبد الله} ونلاحظ هنا مدى السمو الأخلاقي للعلاقة بينه وبين أخيه وأمام عصره بحيث وهو في لحظات عمره الأخيرة لا يخاطب الأمام الحسين إلا بسيدي ومولاي وهو دلالة على مدى التأدب والرقي الأخلاقي في مخاطبة أمام زمانه.وهو الذي رفض إن ينقل جثمانه الشريف إلى المعسكر حياء من حرم رسول الله لعدم تمكنه من جلب الماء إليهم وهذه أخلاق أهل بيت النبوة الذي رفض شرب الماء عندما وصل إلى نهر العلقمي ورجع بالماء إلى المعسكر وهناك تكاثر عليه المجرمون وألا عداء وقطعوا يمينه غيلة وغدر ومن الوراء. ويصف المفكر باقر القريشي(رحمه الله) تضحيات العباس فيقول" والشيء الذي يدعو إلى الاعتزاز بتضحية أبي الفضل ونصرته لأخيه الإمام الحسين، أنّها لم تكن بدافع الأخوة والرحم الماسة وغير ذلك من الاعتبارات السائدة بين الناس، وانّما كانت بدافع الإيمان الخالص لله، ذلك الإيمان الذي تفاعل مع عواطف أبي الفضل، وصار عنصراً من عناصره، ومقوّماً من مقوّماته"(17)، وقد أدلى بذلك في رجزه حينما قطعت يمينه التي كانت تفيض برّاً وعطاءً للناس وارتجز الرجز المحبوب لكل شيعي من مذهب أهل البيت وهو: والله إن قطعتم يميني إنّي أحامي أبداً عن ديني وعن إمام صادق اليقين ثم يضيف القريشي "ومثَّل أبو الفضل العباس (ع) في سلوكه مع أخيه الإمام الحسين (ع) حقيقة الأخوّة الإسلامية الصادقة، وأبرز جميع قيمها ومثلها، فلم يبق لون من ألوان الأدب، والبرّ والإحسان إلاّ قدّمه له، وكان من أروع ما قام به في ميادين المواساة له، انه حينما استولى على الماء يوم الطفّ تناول منه غرفة ليشرب، وكان قلبه الزاكي كصالية الغضا من شدّة الظمأ، فتذكّر في تلك اللحظات الرهيبة عطش أخيه الإمام الحسين وعطش الصبية من أهل البيت:، فدفعه شرف النفس، وسموّ الذات إلى رمي الماء من يده، ومواساتهم في هذه المحنة الحازبة، تصفّحوا في تاريخ الأمم والشعوب فهل تجدون مثل هذه الأخوّة الصادقة ؟!! انظروا في سجلاّت نبلاء الدنيا فهل ترون مثل هذا النبل، ومثل هذا الإيثار الله أكبر أي رحمة مثل هذه الرحمة، وأيّة مودّة مثل هذه المودّة!! إن الإنسانية بجميع قيمها ومثلها لتنحني إجلالاً وخضوعاً أمام أبي الفضل على ما أبداه من عظيم النبل لأخيه الإمام الحسين أبي الأحرار وسيّد الشهداء".(18) ويعتبر هو الشخص الثاني والسند ألأساسي في إصلاح أمة نبينا الأكرم والذي حمل لواء أخيه الحسين(ع) ولم يتوان عن نصرة أخيه فهو السقاء و كفيل زينب، قمر العشيرة وباب الحوائج الذي لم يخيب أحداً حين يدعوه ويقول (يا كاشف الكرب عن وجه أخيه الحسين أكشف كربي بحق وجه أخيك الحسين) وهذا ضريحه الذي يعانق الثريا والذي يبين مكانته العالية والسامية وحين دفنه علي السجاد(ع) سلم وترحم عليه وقال له نعم العم الصابر المجاهد في نصرة أخيه وهو الفحل ابن الفحول والذي شارك في جميع معارك أبيه أمير المؤمنين وأمه فاطمة بنت حزام (أم البنين)التي أختارها أبا الحسن لنسبها الشريف ولكي تنجب له ولداً يحمل لواء الحسين ويدافع عنه عندما يكون وحيداً في كربلاء واستشهد وكان له من الأولاد اثنان، والإمام زين العابدين فهو من المؤسسين للتقوى والفضيلة في الإسلام، وكان هذا الإمام العظيم يترحّم ـ دوماً ـ على عمّه العبّاس ويذكر بمزيد من الإجلال والإكبار تضحياته الهائلة لأخيه الحسين وكان مما قاله في حقّه هذه الكلمات القيّمة: «رحم الله عمّي العباس، فلقد آثر وأبلى، وفدى أخاه بنفسه، حتى قُطعت يداه، فأبدله الله بجناحين، يطير بهما مع الملائكة في الجنّة، كما جعل لجعفر بن أبي طالب، وان للعبّاس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه عليها جميع الشهداء يوم القيامة.. ».(19) وألمّت هذه الكلمات بأبرز ما قام به أبو الفضل من التضحيات تجاه أخيه أبي الأحرار الإمام الحسين(ع)واختم قولي بما يقول عنه باحثنا القريشي (سلام الله عليك يا أبا الفضل ففي حياتك وشهادتك ملتقى أمين لجميع القيم الإنسانية، وحسبك أنّك وحدك كنت أنموذجا رائعاً لشهداء الطفّ الذين احتلّوا قمّة الشرف والمجد في دنيا العرب والإسلام).(20) ووصف الشاعر العلوي السيّد جعفر الحلّي في رائعته ما مُني به الجيش الأموي من الرعب والفزع من أبي الفضل (عليه السلام) يقول: وقــع العــذاب على جيوش أميّة***من باسـل هو في الوقائع معلم ما راعهــم إلاّ تقحـم ضيغــم***غيران يعجـم لفظـه ويـدمدم عبسـت وجوه القوم خـوف الموت***والعبّـاس فيهـم ضاحك يتبسّم قلب اليمين على الشمال وغاص في***الاَوساط يحصد للرؤوس ويحطم ما كرّ ذو بــأس لـه متقـدمـاً***إلاّ وفــرّ ورأسـه المتقــدّم صبغ الخيول برمحـه حتى غـدا***سيـان أشقر لونهــا والاَدهم.(21) وبقى الأمام وحيداً في ساحة المعركة وهو ينظر إلى مقاتل أصحابه وأهل بيته وهم مقطعين الأوصال والأعضاء ومضمخين بدم الشهادة وهو لم يبقة إلا سيف جده نبينا الأكرم محمد(ص) وراية الحق البيضاء وكلمة التقوى. رجع الحسين إلى المخيم منكسراً حزيناً فنادى وهو أمام الآلاف من جيش عمر بن سعد: « أما من مغيث يغيثنا ؟ أما من مجير يجيرنا ؟ أما من طالب حق ينصرنا، أما من خائف من النار فيذب عنا!». كُلّ هذا لإبلاغ الحجّة، وإقامة العذر، حتّى لا يعتذر أحد بالغفلة يوم يقوم النّاس لربِّ العالمين. ولمّا رأته سكينة مقبلاً أخذت بعنان جواده، وقالت: أين عمّي العبّاس، أراه أبطأ بالماء؟ فقال لها: إن عمّك قُتل، فسمعته زينب فنادت: واأخاه! واعباساه! واضيعتنا بعدك! وبكين النسوة وبكى الحسين معهنّ، ونادى: واضيعتنا بعدك أبا الفضل.(22) ثم توجه إلى خيم أهل بيته ليودعهم وبكين النسوة وبكى الحسين معهن وقلن:واضيعتنا بعدك!! ثم إنه عليه السلام أمرهم بالصبر وقال: « استعدوا للبلاء واعلموا أن الله تعالى حاميكم وحافظكم وسينجيكم من شر الأعداء ويجعل عاقبة أمركم إلى خير ويعذب عدوكم بأنواع العذاب ويعوّضكم عن هذه البلية بأنواع النعم والكرامة فلا تشكوا ولا تقولوا ما ينقص من قدركم».(23) وقد وصف هذا الموقف الكاتب هاشم معروف في كتابه إذ يقول " فما أصبرك يا أبا عبد الله وما أروع يومك حينما وقفت في ارض المعركة وحيداً لا ناصر لك ولا معين تتلفت يمينا وشمالا فلا ترى سوى أصحابك وبنيك وإخوتك صرعى على ثرى الطف المديد والأعداء تحيط بك من كل نواحيك تحدق في خيامك الخالدة إلا من النساء والأطفال والصراخ يتعالى من هنا وهناك وأنت تتلوى لهول ذلك المشهد وتلك الحشود الهائلة وقد شهرت أسنة رماحها في وجهك فتغمض عينيك من هول ذلك المنظر ومما حل ببيت الرسالة وأحفاد الرسول فلا تجد من يأويهم ويكفلهم من بعدك. ثم تتلفت إلى أنصارك فلا ترى سوى الجثث المبعثرة من حولك فما أهوله من منظر وما ارزأها من مصيبة لم يحدث التاريخ بمثلها ومع كل ذلك فلم تلن لأولئك الطغاة ومضيت في ثورتك على الباطل ثورة الإيمان بكل معانيه وأبعاده على الكفر بكل اباطيله تقول: والله لا اعطيكم بيدي اعطاء الذليل ولا أقر لكم اقرار العبيد وبقيت خالداً خلود الدهر".(24) ونتوقف هنا لنكمل ولنرى في جزئنا القادم ما سطره أبي الشهداء سيدي ومولاي أبي عبدالله الحسين(ع) من ملاحم خالدة في منازلته لقوى الشر والطاغوت أن شاء الله إن كان لنا في العمر بقية. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المصادر: 1 ـ فتوح ابن أعثم 5/249 ـ 250. 2 ـ مقتل الحسين للمقرم: 292. 3 ـ كتاب اللهوف على قتلى الطفوف للسيد بن طاووس ص 158 تحقيق الشيخ فارس تبريزيان«الحسون». المكتبة العقائدية. نسخة مركز الأبحاث العقائدية. 4 ـ سيرة الأئمّة الاثني عشر: 2 / 76. 5 ـ الملهوف على قتلى الطفوف تأليف سيد العارفين والسالكين رضي الدين ابي القاسم علي بن موسى بن جعفر بن طاووسالمتوفى سنة 664 هـ. تحقيق الشيخ فارس تبريزيان«الحسون» ص 165. 6 ـ كتاب أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (عليه السلام)المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام) قم المقدسة، ص 197. 7 ـ [الأنبياء: 107]. 8 ـ أنظر تكملة السيف الصقيل للكوثري المعاصر، ص 190 - 192. 9 ـ الفتاوى الحديثية: 86. 10 ـ كذا في النسخ، ولكن في تاريخ الطبري 6|625 والكامل 4|30 والأخبار الطوال: 254 ومقاتل الطالبيين: 84 ورد اسمه هكذا: مره بن منقذ بن النعمان العبدي ثم الليثي. 11 ـ كتاب أعلام الهداية الإمام الحسين سيد الشهداء (عليه السلام)المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام) قم المقدسة، ص 197. 12 ـ بحار الأنوار ج 44ص 43 – 44. 13 ـ نفس المصدر وتاريخ ابن الأثير ج 3 ص 293. 14 ـ كتاب: علي الأكبر سليل الحسين، للسيد محمد تقي المدرسي. 15 ـ العباس بن علي (عليهما السلام)رائد الكرامة والفداء في الإسلام.تأليف باقر شريف القريشي، ص15.شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي. 17 ـ نفس المصدر ص 221. 18 ـ نفس المصدر ص 17. 19 ـ الخصال 1: 35. 20 ـ العباس بن علي (عليهما السلام)رائد الكرامة والفداء في الإسلام.تأليف باقر شريف القريشي، ص23.شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي. 21 - العباس بن علي (عليهما السلام)رائد الكرامة والفداء في الإسلام.تأليف باقر شريف القريشي.ص 58. 22 ـ كتاب العبّاس (عليه السلام) للسيّد عبد الرزّاق المقرّم ص 256. 23 ـ مقتل الإمام الحسين عليه السلام للمقرم: ص290؛ موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام: ص592، نقلا عن الدمعة الساكبة: ج4، ص346؛ جلاء العيون للمجلسي: ص576؛ ناسخ التواريخ: ص290. 24 ـ هاشم معروف الحسني، كتاب من وحي الثورة الحسينيّة دارُ القَلَم بيروت ـ لبنان ص44.
أقرأ ايضاً
- حجية التسجيلات الصوتية في الإثبات الجنائي
- ماذا بعد لبنان / الجزء الأخير
- الآن وقد وقفنا على حدود الوطن !!