- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
هاني فحص: شجرة الأرز ونخلة العراق ..
حجم النص
بقلم:فخري كريم ليس كوداعِ الرحيلِ الأبدي من مكابدةٍ متناقضة. فأنتَ إذ تودّعُ عزيزاً في رحلةٍ وجيزةٍ، في زمنِ اختزالِ المسافات، تظلُّ مشدوداً اليه لا تفارقُه، تتملى ملامحَه حتى اللحظةِ الأخيرة، وكأنك دون أن تشعرَ، تريدُ أن تظلَّ صورتُه حاضرةً في ذاكرتِك الى أن يعود. لكنني، على عكسِ هذا تماماً، أكرهُ أن أودّعَ صديقاً في رحلته الأبدية، وقد أتمنى أن لا أكونَ على مقربة منه وهو يموت، أو حتى ان لا أعرفَ بموته! هكذا يظلُّ في ذاكرتي حياً، ويبقى في وجداني سميراً، ألتقيه كلما شئت، أحاورُه وأسامرُه، ونتضاحكُ معاً، ونتخاصمُ على مفرداتٍ ومعانٍ وحياتيات وغيبيات، وعلى المتاهات التي نضيعُ فيها، ونحن نتوهمُ أننا نحيا كما نشاء! وليس كلُّ فقدانٍ مُصيبةً، فالرحيلُ، وقد جفّ ماءُ الحياة في الجسد، وفقدَ النهارُ بهجةَ نوره، رحمةً لمن يغيب، ولمن ينتظر عذاب الحياة. ورحمةً أوسع لكليهما، إذا كان معينُ الفكر وزادُ العقل قد ذويا وتآكلا، ثم صار العقلُ عبئاً، والفكرُ مفازةً للغفلة والهذيان! الفقدان، بما يورثه من ألمٍ ممضّ وفجيعةٍ موجعة، يتسللُ الى مساماتِ الجسدِ ويضغطُ على شغافِ القلبِ، هو ذاك الذي يكونُ العقلُ والفكرُ فيه متقِدين، يقاومان عواديَ الجسدِ، ويتحديان صروفَه، ويتخذان لهما مفازةً خارج استحالاته، ويشعّان بريقاً لا ينطفئ خارجَ المساحةِ المضيئةِ التي يُتيحُها الجسدُ لكائنٍ ملاذُه العقلُ وتجلياتُه الفكرُ وشوارده. في إحدى تجاذباتنا، ونحن نحاولُ استشرافُ ما يمكن أن نلوذَ به من مكدرات المسارات الخاطئة التي أحالت آمالنا الى صحراءَ يحيطُ بها السراب اينما توجهنا، أفاضَ هاني فحص في الحديث عن عواملَ للانحدار، لم تكن في بال أحدٍ، وتوحدنا في تلك اللحظة ونحن نردد معاً: الهوياتُ الفرعية وسمومُها التي باتت وباءً، تتغلغل في جسد الأمة، وتجدُ لها حواملَ، فقدت هويتها الوطنية وتخلّت عن سويتها الإنسانية التي كانت تشكلُ لنا جميعاً، حتى ونحن نختلف ونتصارع، باباً للفرج، ودرباً يفضي الى العدالة، يحفظُ لمجتمعاتنا نسيجَ وحدتها، إن لم يستطع الإبقاء على جذوة الأمل وهي تمنح حياتنا أقل ما يُمكن من معنىً لفرادتها بين الكائنات، وتميزها عنها، بأحكام العقل والبصيرة، في إعادة خلق ما لا يستقيم مع أحكامهما.. لم تكن صداقتي مع هاني، وليدةَ تعارفٍ أو تكافلٍ أو عملٍ سياسي او فكري، تعمدت عبر سنوات امتدت مع العمر، بل هي من تلك الصداقات التي تومض صدفة أو دون توطئةٍ مقصودةٍ، ومضةً لتمسَّ بطانةَ الروحِ وتبقى وديعةً فيها، وقد يكون ذاك الوميضُ متسللاً مخاتلاً، فيكتشفه القلبُ ويلفظه فيخبو وينطفئ، لكن لحظة لقائي الأول بهاني لم تكن قد بدأت للتو، حتى صار العمر لا يتسع لها مهما امتد! هل كان الداءُ الذي أتى على ما كان له من عمرٍ مكتوباً له أن يمتدَّ، كما شخّصه الأطباء، أم أنها حيرةُ البحثِ عن أي سبب يقبله العقل والمنطق لهذا الانفلات والفوضى والتفكك، الذي يسدّ الأفقَ أمام أمةٍ أراد لها أن تجدَ مساحةً انسانيةً مضيئة في عالمٍ يسبرُ العلمُ فيه أعماقَ جزيءٍ يفيضُ، فيؤشرُ لعمقٍ لا يبدو ان له قراراً، ويهيمُ في ما وراء زفرةِ شعاعٍ آتٍ من وراء مجهولٍ كوني يستظلُّ بمجهول! كانت ضحكتُه، تتلونُ بمرارةِ إحساسه حيالَ عبثِ ما يدورُ حولنا. وأيُّ عبثٍ أمضُّ على عقلٍ مستنيرٍ، يعرفُ إعجازَ الخلقِ، ومعنى الكينونة ومرادَها، فيتهافتُ من حوله أشباهٌ أدعياءٌ، يعيدون تشكيلَ عالمِنا، بما يعافه العقلُ والمنطقُ السليم؟ كيف لا تنمو بذرةُ الموتِ في روحٍ تزدحمُ فيها الشكوكُ حول ما تسمعُ وترى من هولٍ، يموتُ الناس الأبرياء خلاله قتلاً على الهوية التي لا شيفرةَ لها في ما توفرَ له من علمٍ بأساسِ دينه، وما تواترَ من قيمِ كل الرسالات منذ الانتباهةِ الأولى لقردٍ بدت علاماتُ السؤال والحيرة على محياه؟! أيُّ سنّي، وأيُّ شيعيٍ، أفتى بشرعيةِ هويتهما، من تلقى قولاً في أول تحولٍ لإنهاءِ مرحلةِ خواء العقلِ العربي وهو يعبد حجراً ويأكل ما جعل منه إلهاً: إقرأ...! أكانت القراءةُ تلك وما تلاها من قولٍ كريمٍ وسيرةٍ تبشرُ بالرحمةِ والعدلِ والمساواة، مهداً شيعياً أم سُنياً، أم بذرةَ دعوةٍ للقتلِ وهتكِ الأعراض، والتمثيلِ بسيد الكائنات التي اصطفاها خالقها..؟ ايعقلُ أن أعيدَ عليكم، أنتم اللبنانيون، المحاصرون بالفتنة، وهي تجيّش الجيوش لهدم بنيانكم، الأهوالَ التي غرقنا نحن العراقيين في أتونها منذ ان صارت الهويةُ المذهبية شيفرةَ الدين والإيمان، فبان بين الطائفتين، من يتفاخرُ بعددِ "القرائين" الشيعية أو السنيّة التي أحرقها هراطقةُ الطائفتين، وبعديدِ المساجدِ والحسينيات التي هدموها؟! أيعقل أن أذكّركم، انتم أيها اللبنانيون أهلُ هذه الواحة التي كانت متكأً لنا، نتفيأ فيها نشدان الاحساسِ بالحق في حياةٍ مستورةٍ، ونتقي فيها من رمضاءَ انظمةِ استبدادٍ وتسلطٍ، من القتل على " الهوية الوطنية " ليأتي الحولُ علينا، فنحذرُ من الهروب اليها من القتل على هوياتٍ مزقت الاوطانَ وجردت كينونةَ الانسانِ مما ارادَ لها بارئُها ان تفخرَ به وتسودَ على كل الكائنات؟ ألم يكن هاني فحص على حقٍ وهو يرددُ كلما شاعت قيمُ الهمجيةِ المتسترة بغطاءِ الدين او المذهب: ليت الموتَ غيبني، قبل أن أعيشَ فظاظةَ البهتانِ على الدين والمذهب، وليتني أموتُ قبل أن يجرفَنا طوفانُه، فلا نعرفُ لنا مصيراً! قد يكونُ للبعضِ ان يقولَ عن هاني فحص ما شاء له الرأيُ، لكنه في هذه اللحظةِ المحّيرةِ من تاريخِنا الملتبس، المفترى عليه، يبدو مثلاً لما ينبغي أن نكونَ عليه، ونحن نعيشُ تسونامي المذاهبِ والهوياتِ الفرعية. كان وهو خطُ التماس بين الأديان والمكونات، يعاني، وهو يجهدُ ليجدَ من يحملُ معه همَّ التوحيد الرباني، لتمكينِ المختلفينَ على توحيدٍ انساني. لم أجد مُذ التقيتُه اولَ مرة حتى آخرَ لقاء، من تتفجرُ معه مكنوناتُ عقلي ولواعج قلبي، تساؤلاتي وشكوكي، هرطقاتي المشتبهُ بأصالتها، كما كان يحصلُ في حضرة هاني فحص. وهل مثلَه حميميةً، وهو يجمعُ الإبهارَ في حفظِ القرآنَ والحديث، وشعرَ المتنبي وغزليات ابن أبي ربيعة وأبي نواس، ويتابعُ ما يتنبأُ العلم به من اختراقاتٍ تضعُ الانسانَ على حافةِ عصرٍ ينفتحُ نحوَ اغراءٍ ببلوغِ سرعةِ الضوء، وسلمِ النانو الفضائي، والتجوالِ الرأسمالي بين كواكبَ مجرتنا، دون أن يقتربَ من المحرمات، لكنه في الوقتِ ذاتِه ينأى عن التجريمِ والتحريمِ، بغيرِ ودٍ مشفوعٍ برجاءٍ يأتي من إيمانٍ لا يرجمُ بالغيبِ: أرجوك لا تكفرني..! كنّا يوماً نختضُّ ونحن نسمعُ تهديداً مبطناً: إحذروا لبننةَ العراق..! وهذا ما كانَ هاني يرددُه، قبل أن نغوص، وها نحن نغوص... أمن تجربتِنا، تأخذون العبرة، فتستعيذونَ بها من شياطين الفتنةِ الطائفيةِ والمذهبية، وتتمسكونَ بصراطِ الوحدةِ الوطنية، أم تلوذونَ بمستنقعاتِ "العرقنة" التي تتوالدُ وتلفظُ كلَّ يومٍ الى جانب قوافلَ الضحايا من الأبرياء، مخلوقاتٍ تتشّبه بالآدمية، وتكويناتُ ماقبلَ تحضرِ الانسانِ الصياد، وأطرٍ تجاوزت القاعدة، فيعيدُ تخليقَ بقاياها اسيادُها الأولون، لتتشكلَ منها داعش وأخواتها.. في آخر سؤالٍ ناجيتُ به هاني وأنا اكتبُ لكم: أسنيّةٌ أم شيعيةٌ، مسلمةٌ أم مسيحيةٌ، شجرةُ الأرزِ يا هاني..!؟ وأنتم: أيُّ هويةٍ لشجرةِ أرزِكم..؟ أيكونُ لي الحقُّ في أن أرجوَكم: دعوا شجرةَ الأرزِ فيئاً لنا جميعاً، لعلنا نستقوي بكم فنحفظُ لنخلتِنا هويتِها..!
أقرأ ايضاً
- الرزق الحلال... آثاره بركاته خيراته
- أهمية التعداد العام لمن هم داخل وخارج العراق
- نتائج التسريبات.. في الفضائيات قبل التحقيقات!