حجم النص
بقلم / طالب عباس الظاهر اليها هذا البكاء أولاً وإليّ أيضا... ولكل قلب مفجوع بضحك القدر! ترفع طرفها نحو وجه رجل خمسيني يوشحه الوقار، كان يدفع نظارته الى عينيه بسبابته ما بين الحين والآخر بعد كل محاولة لتفقد حالتها، لكنها لا تملك إلا أن تبتسم له بوهن... لكي تخفف من وقع طوفان الحزن في ملامحه، وهي ترنو للانحدار الصامت لسيل الدموع من عينيه الحزينتين، وفي الخارج كانت تلتقط أذنيها بدء هطول زخات المطر بشكل متسارع، فتتساءل مع نفسها باستنكار مريع: ـ مَـن يكون هذا الرجل؟ نعم، صورته ليست بعيدة... نبرات صوته ليست غريبةً... دفء لمسة يديه الحانية مألوفة... نبض قلبه وجل كرجع صدى متخافت صوب الأفول، متناغم مع صوت المطر المتساقط بحفيف أليف على الأرض والجدران، وتكتكته على زجاج شباك الغرفة الوحيد، ومع رائحة التراب المتيبس حينما تداهمه رشة مياه. لكني رغم ذلك لا أستطيع تذكّره! - أتراه أبني...أخي... أبي... الدكتور المعـ........؟ أم هو.........؟! لست أدري... لست أدري. لكني يجب أن أكون ممتنة له على أية حال... يكفي اغتصابه لهذه الابتسامة البريئة، الرائعة... ورسمها بافتعال حزين على ملامح وجهه المتعب، ليبدو أكثر ثباتاً في مواجهة انكسارات اللحظة الدامية، وكي يخفي بعفوية غافلة دلائل انهياره الواضحة!. ألا لعنة الله على هذه الذاكرة الآفلة، وعلى هذا الخمول فيها الذي ضبَّب في رأسي صور الأشخاص والأحداث، كأن الوجود قد عاد من جديد الى أصله السديمي من قبل الكينونة... باردا... بليدا... عقيما عن توليد أي دلالة لها شكل معنى مفهوم، ففقدت وجوه الأشياء أهم معالمها، وبدت ملساء عقيمة بلا تضاريس... ومتشابهة في كل زمان ومكان كوجه الزجاج الأبله!. - يا إلهي مَن... مَن هو بالضبط؟ كأنه شبح ما، لتوأم روحي البعيد الجميل... نعم ذاك الكيان الأليف التي تومض به ذاكرتي بشحوب، والذي تركته هناك وحيداً... ضائعاً... منكسرا، ومصلوب الفؤاد على خشبة الانتظار... لا... لا يمكن أن يطوي كل تلك المسافات ويأتي... مستحيل أن يكون هنا!. وسيبقى مزروعاً كشجرة صفصاف منفردة على ضفة نهر الحياة الأخرى بالجانب الشرقي للأرض، بعدما ربطت قلبينا وشائج جنون غريب، داهمنا بغتة في خريف العمر بعدما يئسنا من مرور ربيع جديد في يباس القلب وجدبه، فلم نقو على الوقوف بوجهه، وفجأة أحكم سلطان تهوره مبعثراً هدوءنا ووقارنا!: - رباه كيف لا أستطيع تذكر ملامحه... بل كيف انمحت صورته نهائياً من قلبي وتلاشت ملامحه الأليفة في خيالي بعد كل ذلك العمر المديد من سكنه فيهما كأجزاء لوحة مائية تهدمت معالمها تحت سقوط زخات المطر. أجل.. محال أن يحضرني في مثل هذي الساعة الحاسمة... الفاصلة ما بين دفء الحياة، وبرودة الموت، فقط لأنه يصارع الموج العاتي في بحر الغفلة... ويا ليته يكون موجوداً بلحظات الوداع الأخير هذا... لعلها الأمنية الأخيرة التي تراودني... الوحيدة المتهيكلة في كيان قائم بذاته، ويمكنني التعرف عليها... كم أحتاج حضوره اللحظة.. كم أتلهف لوجوده... وكم سيكون اللقاء تراجيدياً وساحراً كاللقاء الأسطوري بين آلهة الإغريق!. - أما من وسيله لإعلامه بانتكاستي الصحية المميتة هذه؟ ليشهد هذا النزع الأخير. قلقة عليه فعلى الأقل لكي يكون على علم بغيابي الطويل عنه، فيهدأ فيه زئير القلق ويعذرني... ويدعو لي بقلبه المفجوع بهذا الغياب الأصغر، قبل أن يحمل الأثير بالنبأ الأكبر اليه عما قريب ربما!!. فجأة تسمع الرجل الخمسيني يهمس في أذنها... فيلامس أرنبتها بشفتيه... يلثمها بحنان قائلاً: - اهدئي... لا ترهقي نفسك... ولتنم عيناك المسهدة الآن بملء غفلتها... لا... لا وقت إلا للنسيان... ولتسكب دمعها الدافق الذي حبسته طويلا مآقيها في راحتي! فقد حان أوان الغفلة. إلا إنها ترنو اليه في حيرة مفجوعة... لكنها تضمر في طياتها فحوى ألف سؤال وسؤال... وتظل صامتة ولا تنبس بحرف قط. ثم يردف وهو يحدّق في عينيها بهمس حزين: - وليستقر على صدري ضجيج رأسك الحافل بالجنون... جنون أعرف مرارة... قسوته... لا بل أعرف جنونه!. ثم وهو يحدّث نفسه بألم أسطوري كأنه جنّ من هول وقع سير الحياة الأليم الذي جمعهما على حين غرّة ما بعد الوقت الضائع هامساً في ذاته: - ألم أقل لك يا آ................. إن ليس هنالك مستحيل في الحياة؟ وإن الحقيقة دائماً أغرب من الخيال، فما بالك كنت تستبعدين تحقق خيال أدنى من الحقيقة؟! أجل، كيف يا ترى ستتلقى حقيقة وجوده بقربها في هذي اللحظات الأخيرة من بداية الختام؟ خلافاً لكل التوقعات الأكثر غرابة، بل وحتى المعتوهة منها... أكيد إنها سوف تستنكر عليه مثل هذا الادعاء لو فعلاً باح لها به... وحتماً لن يكون ذا قيمة... فتعجزه الحيلة في اقناعها... ويموت الشعور النبيل!!. نعم كانت هي ترفض بشدة التصديق حيناً... وتصرّ في الحين الآخر على استحالة هذا الخيال... خيال أن يضمهما مكان واحد وزمان واحد، في جميع نقاشاتهما أثناء المطارحة بلواعج قلبهما... وحنقهما من قسوة قيودهما المكبلة فيهما حتى جنون الحلم، بينما هو يصرّ ويؤكد لها أيمانه المطلق بإمكانية حدوث هذا بكيفية ما، لكنها لا تعطي هذا الاحتمال البعيد أهميته... بل وتصمّ أذنيها عن سماعه، ولم تتقبل منه مثل هذا المحال على طول لقائهما وحوارهما عبر النت الذي استمر لسنوات، وشدهما بلهفة اللقاء وألم الوداع، وكأنها ترى المستقبل رؤية العين... وتحسبه المستحيل مجسداً. فجأة يشتد في الخارج صوت انهمار شلالات المطر بزخات سريعة مع هبوب رياح شديدة وهي تضرب وجه الزجاج. فيعيد على مسامعها تكراراً قوله: - كأنك لا تتجرئين مبارحة النقطة المكانية التي حشرك القدر فيها في متاهات الأرض النائية حتى في الأوهام... فكيف لهذا الحلم... حلم لقائنا أن يصير حقيقة؟! أو أنك لا تريدين مغادرة قيد الزمن الذي يربط رؤاك... خارج دوائر عقارب الساعة ودورانها الأبله في تهجي فراغ الأرقام في ظل هذا الاستسلام المميت!. - نعم... عشت هنا سنيني العجاف كأني منفية عن ذاتي الأخرى... حالمة أبداً بالسفر... فأجوب بقاع الأرض، وحالمة بالحرية المطلقة، والسياحة الكونية في أقاصي المستحيل... وسأموت هنا في هذا الركن القصيّ كأنه جزء منسيّ من العالم وساقط من خارطة الوجود! ولن يتغير... لن يتغير شيء أقول لك. ـ......................! نعم، هذا ما كانت تؤمن به تماماً، وتكتب له بيقين راسخ عن تأكدها من إنها سوف لا تغادر هذه البقعة من الأرض... بالمنفى الاختياري. بينما صوت المطر بدأ يهدأ كثيراً في الخارج... ويخفت التساقط... فيكاد يتوقف. والممرضة المتعاطفة مع حبهما العاصف كأنها ترنو الى إحدى قصص الخيال الموغلة في غرابة المستحيل. شعور محبط كان يميت حلمها بلقاء حميم يجمعها به ذات يوم في مكان وزمان محددين، أو صدفة مجنونة تضعهما كحبيبين عند أحد أرصفة الزمن على قارعة الحياة! أسفاً... فالأشياء دائماً تأتي متأخرة جداً، ولو لم تأت لعله يكون أفضل من أجل سلام سير دراما الأيام وهدوئها في سيناريو هذا الوجود الغريب...الهائل، ألا لعنة الله على هذا الألم القاتل بالضياع في متاهات المستحيل، كأنه ذاته المرض الذي كانت تخشاه وتتوقع الإصابة به، وتنوّه له عن احساسها المرير بزحفه البطيء في ذاكرتها، ودنوه بإصرار غريب منها بدبيب خبيث. والآن صدق شعورها وإذا به يجثم بجسده الهائل فوق ذاكرتها المتعبة كالكابوس... ويحجب كل الأشياء حتى لم تعد تتذكر أسمها، وتستنكره على نفسها وهي تسمعه على لسان الآخرين كأنه طنين ذكرى نائية غشيتها غيوم داكنة من النسيان. ليشتد أوار الصراع في حبكة قصة وجودها... وجوده... وجودنا جميعاً. ولتحكم الظروف أن تنقل في علاجها الى هذا المنفى للمعالجة... ويكون هو في ذات المكان بالصدفة أو بإحكام المشيئة التي تحكم قبضتها في مسببات الأشياء بتدبير معجز غالباً... ولتموت تحت برق ورعد قبلته الأولى، التي ستظل الأخيرة في انهمار زخات القبل.
أقرأ ايضاً
- الصيد الجائر للأسماك
- ضمانات عقد بيع المباني قيد الإنشاء
- إدمان المخدرات من أسباب التفريق القضائي للضرر