حجم النص
بقلم :عباس عبد الرزاق الصباغ
يمتد التوتر القائم والمزمن في العلاقات السورية الأمريكية الى الإدارات الأمريكية السابقة وتحديدا الى عهد الرئيس الجمهوري جورج بوش الذي ابتكر تسمية "محور الشر" Axis of Evil ويشمل إيران وكوريا الشمالية وعراق ما قبل التغيير وقد أضاف السفير الأمريكي لدى الأمم المتحدة جون بولتون في خلال أحد الخطابات في 2002 إلى بعض البلدان عبارة "ما وراء محور الشر" مدرجاً سوريا ضمن هذا المحور وهي استعارة مجازية للخندق المناوئ للولايات المتحدة الأمريكية وسط مناخ إقليمي شرق أوسطي ممالئ للولايات المتحدة ومناخ شرق آسيوي مشابه في الممالأة وضمن تراتبية المصالح المشتركة بين الولايات المتحدة وبين الدول السائرة في ركابها .
و"الشر" بالمفهوم الأيديولوجي الأمريكي إن هذه الدول إضافة الى كوبا وفي هذا المحور تشكل تهديدا للمصالح الإستراتيجية الأمريكية في منطقتي الشرق الأوسط وشرق آسيا من جهة وتشكل خطرا على الأمن القومي الأمريكي باعتبار ان شبكة المصالح الأمريكية تشمل جميع المناطق الحيوية في العالم فضلا عن الشرق الأوسط وإسرائيل من جهة ثانية. والدول المصنفة أمريكيا ضمن هذا المحور ليس بينها أي ترابط إيديولوجي مشترك سوى مناوأة الولايات المتحدة لأسباب سياسية شتى، فإيران ذات حكم ثيوقراطي متشدد منذ نجاح الثورة الاسلامية في ايران سنة 1979 بينما سوريا يحكمها حزب البعث العربي الاشتراكي منذ اربعة عقود وهو حزب علماني قومي شوفيني وكوريا الشمالية معروفة بتوجهها الماركسي ذي الطابع الستاليني المتزمت فالجامع لهذه الدول على اختلاف إيديولوجياتها المتنافرة هو راديكالياتها الكلاسيكية المعادية في الظاهر لسياسات الولايات المتحدة، والمتمثلة مابين الإسلام السياسي المتحجر والعلمانية ذات الوجه البوليسي التسلطي والماركسية الشمولية الصارخة وهو ما يشكل تيارا مناوئا للولايات المتحدة يشبه ذلك التيار الراديكالي "الثوري" الذي عم العالم الثالث في العقود الاخيرة من القرن المنصرم، فقد رُسمت الاستراتيجيات للسياسية الخارجية الأمريكية على جملة مفاهيم وثوابت من جملتها وجود "عدو" شرس ومتوهم في مخيلة صناع القرار ومن يقف وراءه (البيت الأبيض / الكونغرس بشقيه مجلس النواب والشيوخ/ البنتاغون / اللوبي اليهودي ) ومنذ ان وضعت الحرب العالمية أوزارها فالولايات المتحدة كان نشاطها الخارجي يقوم على تفعيل الهيمنة والسطوة والتسلط وفرض القوة والانفراد بالقرار الاممي من خلال احتواء هيئة الامم المتحدة ومعها مجلس الأمن وتجيير قرارات هذه المنظمة لصالح هيمنتها خاصة إبان الحرب الباردة واشتعال المنافسة المحمومة بين القوتين العظميين آنذاك للسيطرة على المناطق الحيوية في العالم وإذا اقتضت "الضرورة" تتجاوز الإدارة الأمريكية تفويض الهيئة الاممية بقرار أمريكي صرف بالاعتماد على "تفويض" الكونغرس او الاكتفاء ب "صلاحية" الرئيس والارتكاز الى حلفائها كغطاء يشرعن أنشطتها ويعطيها "الغطاء" اللازم .
ويبدو من خلال الحراك الأمريكي الأخير حول مسألة ضرب سوريا ضربة "محدودة" على خلفية اتهام حكومة بشار الاسد باستخدام الكيماوي ضد المدنيين ما أسفر عن سقوط مئات الضحايا ان هذا الحراك موجه للبدء باحتواء وتفكيك هذا المحور أي "محور الشر" حسب التوصيف الأمريكي لإعادة ترتيب الخارطة الجيبوليتيكية للشرق الاوسط وشرق آسيا بافتعال الحجج واختلاق الأزمات وقد وفرت الأزمة السورية الوسيلة المرتجاة لهذا الهدف والحجة هي استخدام الكيماوي (رغم عدم وضوح مسؤولية أية جهة لحد الان ولم يدلِ الخبراء رأيهم بذلك) واستهداف الأبرياء ومن خلال هذه "الحجة" تأتي محاولة إنتاج عدو شرير وخطير واستيهام واستغفال الرأي العام الأمريكي (ومعه الرأي العام الأوربي) بان حكومة بشار الاسد لاتمثل تهديدا مباشرا لمواطنيها او لإسرائيل (الحليفة الإستراتيجية المجاورة لسوريا) او للشرق الأوسط عموما وإنما تمثل تهديدا مباشرا للمصالح الإستراتيجية وللأمن القومي الأمريكي فالمسالة السورية مسالة أمريكية بالدرجة الأساس بغض النظر عن استخدام الكيماوي من عدمه!! .
فقد اختزل الانقسام الواضح في مؤتمر أعضاء مجموعة العشرين الذي انعقد في سان بطرسبورغ في روسيا قبل ايام رغم عدم إدراج الأزمة السورية في جدول أعماله ..اختزل الانقسام في الرأي العام العالمي لاسيما الأوربي، وأوضح القلق الذي يخيم على العالم وحتى داخل الكونغرس الأمريكي نفسه فان قرار الضربة المتوقعة لم يحظَ بأكثرية مريحة كما لم يجد قبولا عاما في مؤتمر دول العشرين (11 من 20 ) ومع هذا فان رغم "الحماس" الظاهر البادي على الرئيس اوباما و"الانفعال" الدراماتيكي الذي ظهر على وجهه وطريقة كلامه إلا انه لم يكن بحماس يضاهي "حماس" سلفيه جورج بوش الأب والابن في مسالة اتخاذ قرار ضرب العراق وقرار إسقاط نظام صدام حسين وبتجاوز مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة إضافة الى ماتقدم فان مؤيدي توجيه الضربة لم يقدموا أي سيناريو واضح لهذه الضربة التي يصفونها بالمحدودة وما إذا تم إسقاط الأسد او إذا ما تغير ميزان القوى لصالح بعض قوى المعارضة السورية واقصد القاعدة والفصائل السلفية والتكفيرية وماذا ستكون عليه الأوضاع في دول جوار سوريا إذا ما تمت الضربة ناهيك عن ردود أفعال بشار وقواته ضد إسرائيل التي تعتبر العمق الإستراتيجي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط إضافة الى أصدقائها فيه والرد الإيراني فضلا عن رد حزب الله الذي سيكون في موقف لايحسد عليه لو تم تنفيذ هذه الضربة ناهيك عن تداعياتها الخطيرة على العراق المستهدف قبل سوريا، فالشيء الوحيد الواضح هو سيناريو صناعة "عدو" متوهم ومتخيل وتسويقه أمام الرأي العام الأمريكي والأوربي خاصة والرأي العام العالمي عامة ليتجلى للعيان الخطر المحدق للمصالح الحيوية ولإدامة الآلة العسكرية الأمريكية وإنتاج وتجارة الأسلحة بحروب تتجدد باستمرار وهذا هو ديدن الولايات المتحدة التي تنفرد بالقرار الدولي وليس ابتداءً بخليج الخنازير في كوبا مرورا بفيتنام والعراق وكوريا الشمالية وكوسوفو والصومال وليبيا وليس انتهاءً بسوريا والقائمة تطول والحديث ذو شجون.
إعلامي وكاتب مستقل
[email protected]
أقرأ ايضاً
- دلالات العدوان الصهيوني على لبنان
- الشماتة بحزب الله أقسى من العدوان الصهيوني
- تحية تقدير الى طلاب امريكا