حجم النص
بقلم :نـــــــــــــــزار حيدر
بتاريخ (18 تموز 1921) اقام يهود العراق في العاصمة بغداد حفل استقبال للامير (فيصل بن الحسين) القادم من البادية ليستلم عرش العراق، القيت فيه عدد من القصائد وكلمات الترحيب.
في ختام الحفل اراد الامير ان يرد الجميل للمحتفلين، فارتجل كلمة قصيرة قال فيها:
اني لا اريد ان اسمع كلمة مسلمين ومسيحيين واسرائيليين، فالعراق وطن القومية، وليس فيه سوى امر واحد، هو ان يقال عراقيون فقط.
وبعد مرور (93) سنة لم نكتف بذكر ثلاث شرائح اجتماعية فحسب وانما تعددت الطوائف وتضاعفت المسميات وانقسمت على نفسها كالاميبيا، فعراق اليوم هو عراق الطوائف لم يرد اسمه على لسان احد من ابنائه الا واضطر الى تعدادها واحدة فواحدة، ويا ويل احدهم اذا ما نسي في حديثه ذكر احداها فهو مأجور ويحمل اجندات خارجية وعميل وخائن و..و..و..
نقل لي صديق قصة ظريفة بهذا الصدد، يقول:
كنا في اجتماع في مدينة الموصل لبحث سبل التعايش السلمي بين العراقيين، احد المتحدثين نسي ان يذكر اسم احدى الطوائف سهوا وليس عمدا بكل تاكيد، فعدد كل الطوائف الا واحدة، اذا بنا نفاجأ بصراخ احد الحاضرين بوجهه يقول له: يا خائن يا عميل يا مفتري لماذا لم تذكرنا وقد ذكرت كل الطوائف؟ لماذا نسيت ان تذكر اسم طائفتنا؟ انك تبيت لنا شرا، تريد ان تهجرنا من ارض آبائنا.
هذه الحالة تتكرر يوميا في كل مناطق العراق، وفي كل وسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، ولمن يتهمني بالمبالغة اتمنى عليه ان يستمع الى خطاب اي متحدث في العراق، سياسيا كان ام عالم دين ام مثقف ام اعلامي او اكاديمي ام اي شئ آخر، فسيراه يلجا الى تعداد اسماء كل الطوائف بين جملة واخرى، لدرجة انك ستراه يصفر لونه ويخضر وجهه خوفا من ان ينسى ذكر احدها فتنزل عليه المصيبة، او صاعقة من السماء فتهوي به في واد سحيق.
كذلك، سوف لن ابالغ اذا قلت بان العراقي هو الوحيد الذي ياتي على ذكر طوائف المجتمع كلما تحدث او كتب، فانا شخصيا لم اسمع ان رئيسا لبلد من البلدان ذكر اسماء الطوائف في بلاده كلما تحدث، لا في البلاد النامية ولا في البلاد المتقدمة، اذ يكتفي المتحدثون بذكر الاسم العام الواحد للشعب فقط بلا (طوائف).
قد يقول قائل بان تنوع المجتمع العراقي هو الذي يفرض على العراقيين التحدث بهذه الصيغة الفريدة، وكانه ليس في بقية بلدان العالم مثل هذا التنوع، انظر الى الجارة ايران، مثلا، اوليس فيها العرب والفرس والترك والبلوش واللر وغيرهم من الاثنيات؟ وفيها المسلم وغير المسلم، وفيها الشيعي والسني، وفيها كل شئ؟ ولكن، هل سمعتم يوما ان الرئيس الايراني ذكر اسماء الطوائف في بلاده وهو يتحدث في اجتماع عام او يدلي بتصريح؟ ابدا، وكذا الحال في مصر مثلا او في الولايات المتحدة او في اي بلد من بلدان العالم.
ان التنوع نقطة قوة لاي مجتمع، ولكنها في العراق تحولت، وبسبب نظام المحاصصة والتمييز الطائفي والعنصري الذي ورثناه من النظام الشمولي البائد، تحول الى نقطة ضعف كالقنبلة الموقوتة نخشى ان يسحب متهور صاعقها فتنفجر بوجه الجميع.
ان هذه الصيغة الممجوجة من الخطاب تكرس الخلاف وتؤسس لتمزق اجتماعي بمرور الوقت.
لقد تمنى اجدادنا ابان حقبة التاسيس قبل قرن من الزمن ان تختفي من على السنتهم ذكر ثلاث طوائف، اذا بنا اليوم نفرخ طوائف لها اول وليس لها آخر، فطوائف دينية واخرى مذهبية وثالثة اثنية ورابعة مرجعية وخامسة عشائرية وسادسة مناطقية وسابعة حزبيية وثامنة كتلوية وهكذا، والحبل على الجرار كما يقولون، وانني اخشى يوما ان يتحول فيه كل مواطن الى (طائفة) فيصبح عندنا في العراق (30) مليون طائفة واكثر.
تعالوا، اذن، نغير من صيغة خطاباتنا، فلا نذكر من الان فصاعدا الا كلمة (العراقيون) و (الشعب العراقي) من دون ان نلحق بها التسميات التي مللنا منها، فالعراق هو الخيمة الكبيرة التي تضللنا، والمواطنة هي الانتماء الوحيد الذي يجمعنا.
واقولها بصراحة وبضرس قاطع، فان كل التسميات تفرقنا الا اسم واحد هو (العراق) فهو الوحيد الذي يوحدنا، وان كل انتماء يفرقنا الا انتماء واحد هو (الانتماء الوطني) فاذا حافظنا على العراق حافظنا على كل شئ آخر، واذا صنا انتماءنا للوطن صنا كل الانتماءات الاخرى، والعكس ليس صحيحا، فالحفاظ على هوية (الطوائف) لا يحفظ لنا لا العراق ولا الطوائف، فالخمية الكبيرة هي التي تاخذ تحت اجنحتها وبدفء صدرها وقلبها الواسع كل مكوناتها الاخرى، اما الخيمة الصغيرة فلا تتسع للجميع ممن هو اكبر منها ابدا.
ايها العراقيون: تعالوا نعود، بتشديد الواو، السنتنا على صيغة واحدة فقط في الكلام والحديث والكتابة، انه بلدنا العراق، ونحن العراقيون فحسب.
تعالوا نعود السنتنا على ان لا نذكر اسماء الطوائف كلما تحدثنا او كتبنا، ابدا.
تعالوا نحب بلدنا لانه العراق فحسب، ونحب انفسنا لاننا عراقيون فحسب.
تعالوا نفتخر بالعراق ثم بطوائفنا، لان العراق اكبر من كل الطوائف وهو القاسم المشترك والارضية المشتركة التي نجتمع فيها وعليها.
تعالوا نكرس الانتماء للوطن، وليس للطائفة، ونفتخر بالهوية الوطنية وليس باية هوية اخرى.
تعالوا نغني لوطن اسمه العراق وننشد لشعب اسمه الشعب العراقي ولانتماء اسمه المواطنة.
دعوا الانتماءات للطوائف جانبا، ولتحتفظ كل طائفة بانتمائها الخاص لنفسها، اما الانتماء الذي يشملنا فهو الوطن فحسب، ولنسجل انجازاتنا ومكاسبنا ونجاحاتنا باسم الوطن وباسم المواطنة.
اذا دافعنا فلندافع عن العراق، واذا افتخرنا فلنفتخر بالعراق، واذا بكينا فلنبك العراق، واذا حزنا فلنحزن على العراق، واذا فرحنا فلنفرح للعراق.
تعالوا:
اولا: نتعامل مع المسؤول بصفته عراقيا وليس اي شئ آخر، فمنجزه للعراق وفشله عليه.
ثانيا: اذا انتقدنا المسؤول فلننتقده كعراقي واذا عاقبناه فلنعاقبه كعراقي واذا مدحناه فلنمدحه كعراقي، بمعنى آخر، ان نحاسب المسؤول او نكرمه على اساس عراقيته وليس على اي اساس آخر.
ثالثا: عندما نريد ان ننتخب مرشحا فلا نسال عن دينه او مذهبه او عشيرته او اثنيته وانما نسال عن علمه وانجازه ونزاهته وخبرته وتجربته وتاريخه النظيف، وبذلك ستتراجع القيم الفاسدة في عملية الاختيار وتتقدم القيم الحضارية، ما يساهم في منح العناصر الكفوءة والنزيهة والخبرات الوطنية فرصة مهمة من اجل ان تتبوأ مكانها المناسب في الوقت المناسب.
الى متى يظل الناخب يسال المرشح (الاخ من اي عمام) وكانه تقدم للعشيرة بخطبة زواج، او ان يساله عن دينه او مذهبه او اثنيته او ما اشبه من هذه الاسئلة التي كرست ثقافة الطوائف وركلت النخب الوطنية الحقيقية لتدفعها الى الخانة الاخيرة من الصف؟.
ماذا سينفع العراق اذا فاز بصوت الناخب مرشح ينتمي الى اكبر عشيرة في العراق وهو لا يمتلك اي شهادة علمية؟ او انه صاحب سوابق؟ او انه لا يمتلك الخبرة الكافية للمساهمة في بناء البلد؟ وما سينفع العراق فائز يصلي صلاة الليل ويحمل بيده مسبحة ذرعها سبعون ذراعا الا انه لا يتمتع بروح المسؤولية ولا بروح المواطنة الحقيقية؟ وماذا ينفع فائز يتمتع بسجل نضالي طويل الا انه عديم اللون والطعم والرائحة، اي انه امعة لا يمتلك اي رصيد شخصي تتسمر عيونه على شفتي الزعيم قبل التصويت بنعم او لا؟ فيما العراق بحاجة الى مسؤولين يتمتعون بالحرية والنزاهة ثم ليات من اية خلفية كانت؟.
وهو بحاجة الى ثقافة الوطن المستقل عن شخص الحاكم او المسؤول.
رابعا: ان نتعامل مع المسؤول على قاعدة {كل نفس بما كسبت رهينة} فما دخل الدين او المذهب او الاثنية بفشل المسؤول او فساده او لصوصيته او ظلمه؟.
خامسا: ان ندافع عن المظلوم بصفته مواطن عراقي فحسب، وناخذ على يد الظالم بصفته مواطن عراقي فحسب، فلا نحمل (الطوائف) شيئا منها، اولم يغضب الامام امير المؤمنين عليه السلام عندما سال عن حال شيخ كبير مرمي على الرصيف بقوله {ما هذا؟) عندما اجابه القوم: انه نصراني؟ فقال عليه السلام: لم اسالكم عن دينه وانما سالتكم عن حاله.
اولم يشجع رسول الله (ص) المسلمين بالهجرة الى الحبشة {لان فيها ملك لا يظلم عنده احد} فهو لم يذكر لهم دينه او زيه او عمره او هويته، انما العنوان الاسمى الذي يبحث عنه المرء ليعيش حرا كريما في ظله.
يجب ان تتمحور اسئلتنا عن الحالة وليس عن (الطوائف) والانتماءات، الا اذا اردنا ان نميز في ردود افعالنا، فاذا كان الظالم من طائفتي لذت بالصمت اما اذا كان من غيرها صرخت، وكذا اذا كان المظلوم من طائفتي صرخت، اما اذا كان من غير طائفتي لذت بالصمت.
علينا ان نتعلم ثقافة (المواطنة) ونلغي من ادمغتنا ثقافة (الطوائف) سواء في المدرسة او الشارع او الجامعة او الوظيفة او في اي مكان في المجتمع.
نقل لي طلاب في الدراسات العليا في عدد من جامعات بغداد، يقولون: ان ظاهرة (الطوائف) معشعشة في اذهان الكثير من الاساتذة، على الرغم من ان بعضهم يحاول اخفاءها بين طيات حديثه او تحت طيلسانه، ولكنها تظهر فجأة على السنتهم عندما تتازم الامور في المنطقة الغربية مثلا او الجنوبية من البلاد، اذا بهذا الاستاذ الوديع المسالم (الوطني) حتى النخاع يكشر عن انيابه الطائفية والعنصرية بشكل مرعب، فاين ثقافتك ايها الاستاذ؟ وماذا ستعلم الجيل الجديد ايها الاستاذ المربي؟ وما الذي ستنقله الى بناة المستقبل ايها الاستاذ الموقر؟ فاذا كنت (انت الاستاذ) تنتمي الى ثقافة (الطوائف) فماذا سيكون عليه الجيل الجديد؟ وكيف سنقضي على ثقافة (الطوائف) وكيف سنئدها؟.
وكذا الحال عند الباحث والكاتب والعالم والفقيه والمعمم والمعلم والصحفي وعند الكثير من شرائح المجتمع التي يفترض فيها انها رائدة وقدوة ومعلمة.
علينا جميعا ان ننتبه الى كلامنا من الان فصاعدا فلا نذكر (الطوائف) على السنتنا ابدا، اعرف ان ذلك صعب التنفيذ، لان من شب على شئ شاب عليه، ولكن علينا جميعا ان نعلم انفسنا ونعود السنتنا، فالى متى يظل المسؤول يعدد (الطوائف) على لسانه كلما تحدث او صرح؟.
ليكتف المتحدث منا بذكر اسم العراق والعراقيين فقط، فلا حاجة لنا بان يذكرنا احد بطوائفنا كل يوم وكل ساعة، ولنتعلم، على الاقل، لغة الخطاب الوطني، ثم بعد ذلك سنتعلم لغة الحوار الوطني والتوافقات الوطنية والتعايش الوطني وكل ما يخص الوطن والمواطن بعيدا عن تسمية (الطوائف) وكاننا اذنبنا ذنبا بحاجة الى من يذكرنا به في كل آن، فلا تحولوا التنوع الى سبة يا.......قادة.
[email protected]
أقرأ ايضاً
- أهمية التعداد العام لمن هم داخل وخارج العراق
- ضرائب مقترحة تقلق العراقيين والتخوف من سرقة قرن أخرى
- الأطر القانونية لعمل الأجنبي في القانون العراقي