حجم النص
فيما يخص الاستعداد، يلزم ان ينسجم مع حقيقة الشئ الذي ينتظره الانسان، فالطالب الذي ينتظر يوم الامتحان يختلف استعداده عن اللاعب الذي ينتظر يوم اللقاء الرياضي، كما ان نوعية انتظار الشرطي لقدوم الضابط، يختلف عن استعداد الموظف لقدوم مدير الدائرة، او الوزير لقدوم الرئيس، وهكذا.
اما الامل الذي يغمر الانسان وهو ينتظر امرا او احدا، فمن المفترض ان يكون امل معجون بعمل، ليتحقق التغيير نحو الافضل.
وبذلك نقف على نوعين من الانتظار، الاول هو الانتظار الايجابي، الذي ينجز فيه المرء اعلى درجات الاستعداد وبامل مصحوب بعمل، بانتظار القادم ليجد ان من ينتظره مستعدا بالفعل للقائه، اما النوع الثاني فهو الانتظار السلبي الذي لا يحرك فيه الانسان اي ساكن وهو ينتظر الشئ، بل قد تراه يتحول الى كتلة من الطاقة السلبية المدمرة بحجة ان من ينتظره سيغير الامور نحو الافضل وساكون ممن يستفيد من هذا التغيير، اي ان الانتظار السلبي يعتمد الاتكالية والسلبية والتواكل، فهو لا ينتج شيئا ولا ينجز امرا.
في ذكرى مولد الامل في الخامس عشر من شعبان من كل عام، مولد الامام الثاني عشر من ائمة اهل البيت عليهم السلام، والذي بشرت به كل الكتب السماوية فضلا عن القرآن الكريم ورسول الله (ص) يتجدد الحديث بشكل اكثر تركيزا عن فكرة الانتظار ومفهومه، فبين من يقول بالانتظار الايجابي للامام، على اعتبار انه سيظهر في اليوم الموعود وبارادة الله تعالى ليغير ويبدل نحو الافضل معتمدا على ثلة من القادة والكوادر المتقدمة والمتميزة في كل شئ حسن وفضيل، ان على الصعيد المادي او المعنوي، ولذلك يلزمنا ان نبذل كل جهد ممكن من اجل ان يكون الواحد منا من انصاره واعوانه، الامر الذي يتطلب منا جميعا ان نبذل قصارى جهدنا من اجل ان نكون ممن سيختارنا الامام للعمل في صفوف قادته وكوادره، وبين من يقول بالانتظار السلبي على اعتبار ان الامام سوف لن يظهر الا بعد ان تمتلئ الارض ظلما وجورا ليملاها قسطا وعدلا، ولذلك فان علينا ان لا نغير ولا نبدل شيئا من الواقع، كما ان علينا ان لا نامر بالمعروف ولا ننهى عن المنكر ولا نواجه الظلم ولا نتصدى للحاكم الجائر الذي يسحق حقوقنا ويعتدي على كرامتنا لان كل ذلك يقلل من الظلم والجور فلا تمتلئ الارض بهما، ما يعني اننا، بمثل ذلك، نؤخر ظهور الامام، فنكون من العاصين.
ولقد كثر الحديث بهذا المفهوم منذ عصر بداية الغيبة وسيستمر حتى اليوم الموعود، مصحوبا بفكرة التوقيت التي يسعى من يتبناها الى ان يطبق بعض الظواهر الطبيعية والحياتية واحيانا الحوادث السياسية والحروب وموت هذا الملك او ذاك الزعيم او ذلك العالم على علامات الظهور ليبشرنا بقرب ظهور الامام وكأن عنده علم الساعة، ولذلك فان ما نراه ونسمعه اليوم من حديث عن الانتظار السلبي او ظاهرة التوقيت ليست بجديدة، بل انها تعود الى اكثر من الف عام.
وبتتبع بسيط لتيار الانتظار السلبي سنجد انه:
الف: تيار فاشل ومتخلف في حياته ولذلك يبحث عما يعلق عليه سبب فشله، وعلة تخلفه، فيدعي انه ينتظر الامام الذي سيغير ويبدل ولذلك لم اشا ان اغير او انجز لانني لا ارى فائدة في كل ذلك.
باء: تيار مهزوم نفسيا وحضاريا ومبهور بحضارات الاخرين العملاقة، فتراه يلجا الى السلبية لتبرير هزيمته وكان يد من وراء الغيب تدفعه دفعا باتجاه السكون والاتكال والتواكل.
جيم: تيار غير قادر على استيعاب متغيرات الحياة، لا خبرة له في تحليل الامور والحوادث الواقعة، فيلجا في كل مرة الى التفسير الغيبي المرتبط بفكرة الظهور للتهرب من استحقاقات المتغيرات.
وفي زحمة تلاطم الافكار والتيارات والتوجهات الخاصة بفكرة الظهور، يتساءل المرء عن الركن الشديد الذي يجب ان يلجأ اليه لتفسير الظاهرة؟ ومن الذي يمكنه ان يجيب على تساؤلاته بشان اي الانتظارين يلزمنا ان نلتزم ونبشر به؟.
برايي، فان مدرسة اهل البيت عليهم السلام التي رسمت معالم كل صغيرة وكبيرة ليس للمسلمين ولشيعتهم فحسب وانما لكل البشرية، قد حددت معاني هذه المفاهيم بشكل دقيق ومفصل، من خلال السيرة الذاتية كل امام، ونوعية المواقف التي اتخذها كل واحد منهم في زمانه، ومن كل حسب ظروفه وما يتطلبه الواقع بعيدا عن التنظير الفارغ والقول المثالي، ولقد اعتمدت كلها على منهجية سليمة وواضحة رسمها رسول الله (ص) بقوله {جهاد امتي انتظار الفرج} وقوله (ص) {إن كان بيد أحدكم فسيلة فاستطاع أن يغرسها قبل أن تقوم الساعة فليغرسها} هذا يعني:
اولا: ان جوهر الانتظار هو بذل اقصى الجهد من اجل التغيير نحو الافضل استعدادا لساعة الظهور، وهي الفكرة التي تتناقض ومنهجية الانتظار السلبي.
ثانيا: ان الانتظار ليس اتكالا بل توكلا، لانه عمل اولا واخيرا، وان اقتراب لحظة اللقاء بالامل الموعود لا يعطل العمل حتى آخر لحظة من عمر الانسان، بل على العكس من ذلك فان انجاز اللحظة الاخيرة دليل حرص المنتظر، بكسر الظاء، لتقديم افضل ما عنده لمن ينتظره، لماذا؟ لان الذي ينتظره المرء يسمى منتظرا، بفتح الظاء، ومنتظرا، بكسرها، فهو الاخر ينتظر اعوانه ومريديه ليتموا ما وعدوا بانجازه لاستقباله قبل اللقاء.
هذا من جانب، ومن جانب آخر، فان منهج اهل البيت عليهم السلام الذي يعتمد فلسفة الانتظار لليوم الموعود منذ ان بعث رسول الله (ص) وهو اول من بشر بالقائم من آل البيت، وهو الذي بشر المسلمين بان السيد المسيح عليه السلام سينزل في آخر الزمان الى الارض ليصلي خلف الامام المهدي الذي سيكون من عندهم، اي المسلمين، هو خير من جسد فكرة الانتظار الصحيح والسليم، وهو الانتظار الايجابي نحو مستقبل افضل، فالحسين السبط عليه السلام جسد فكرة الانتظار باستشهاده في عاشوراء عام 61 للهجرة في كربلاء، كما ان اخيه الحسن السبط عليه السلام هو الاخر جسد هذا المفهوم في حياته ولكن بطريقة اخرى، وكذلك بقية الائمة عليهم السلام، فمنهم من جسد المفهوم بالعلم وتاسيس المدارس الدينية والعلمية، ومنهم من جسده من خلال القبول بولاية العهد، وآخر جسده بالصبر على السجن والاعتقال، وهكذا، لنستنتج حقيقة في غاية الاهمية تتعلق بفكرة ومفهوم الانتظار، الا وهي ان مواقف ائمة اهل البيت عليهم السلام بمجموعها هي التي تعبر عن فلسفة الانتظار الحقيقي، والتي تعتمد افضل الانجازات في كل ظرف يمر به المرء، شريطة ان تكون في سياق التقرب الى الله تعالى وليس في اطار التفسير المادي المصلحي الذي يبرر في ظله المرء مواقفه الفاشلة وغير السليمة.
لم يحدثنا التاريخ ان احدا من اهل البيت عليهم السلام برر للظالم او تعاون مع مستبد او سكت عن حق او غض النظر عن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر او جلس في بيته واعتزل الناس، بحجة انه ينتظر آخر الزمان، فهو يمهد للامام المهدي (عج) بالسكوت عن الفساد والانحراف والجور والظلم، ابدا، والا لما انتهت حياتهم بالقتل والسم ، ولما انتشرت قبورهم في العديد من الدول وهي اشارة الى حياة النفي والمطاردة التي كان يعيشها اهل البيت عليهم السلام، ليس الائمة المعصومون منهم بل كل واحد منهم.
لقد جسد اهل البيت عليهم السلام جوهر الحديث الشريف {جهاد امتي انتظار الفرج} على احسن صورة وبادق المعاني، فلقد كانت حياتهم كلها جهاد من اجل الانسان، حريته، حقوقه، كرامته، فكانوا يرفضون الظلم الذي يلحق بالانسان بغض النظر عن دينه ولونه واثنيته وانتمائه واي شئ آخر، لان المعيار في الدفاع عن الحق هو الانسان وليس اي شئ آخر، ومن هذا المفهوم نفهم ان اهل البيت عليهم السلام هم للناس كافة كما ان جدهم رسول الله (ص) رحمة للعالمين وان القران الكريم للناس كافة.
وفي ذكرى مولد الامل وتجدد مفهوم الانتظار، فان على كل واحد منا ان يعيد النظر في حياته كفرد وكمجتمع، لنعرف ما اذا كنا قد اقتربنا او ابتعدنا عن مفهوم الانتظار خلال العام المنصرم، وما اذا كنا بالفعل ممن ينتظر الامام بمنهج اهل البيت عليهم السلام ام بمناهج شتى اخذت تميل بنا كل جانب، الا جانب الوعي والادراك الحقيق والفهم الواعي للمفهوم؟.
فاذا تساءلنا مثلا، هل ان المسؤول الذي وثق به الناخب فمنحه ثقته ليكون مسؤولا في الدولة، عضوا في مجلس النواب مثلا او وزيرا او ما اشبه، ثم خان الامانة فمد يده الى المال العام بطريقة فنية او اخرى مبررا لصوصيته بآية او رواية، هو ممن ينتظر الامام؟ وسيكون من انصاره واعوانه؟ وهل ان الشاب المنحرف خلقيا او غير الملتزم باخلاق القرآن الكريم، الذي يعبث بالعلاقات الاجتماعية، ثم يبرر كل ذلك بكونه ممن يسير المسافات الطويلة مشيا على الاقدام لزيارة الحسين السبط عليه السلام في الخامس عشر من شعبان مثلا او في الاربعين، هو ممن ينتظر الامام بمثل هذه السيرة غير السليمة؟ وهل ان الانسان الذي يكذب ويغش ويعتدي على اعراض الناس ويظلم ما دونه بالعدوان او ما قفوقه بالعصيان او يقل لوالديه اف لكما او لا يحسن الخلق مع اخوته واخواته او جيرانه وابناء مدينته، ثم يبرر كل ذلك بصلاة الليل مثلا او بادارته لموكب حسيني او ما اشبه ذلك، هو ممن ينتظر الامام (عج)؟ وهل ان المسؤولين في مدينة مقدسة كمدينة كربلاء، مدينة الحسين السبط عليه السلام، هذه المدينة التي اريق على ارضها الطاهرة دم سبط رسول الله (ص) واهل بيته الكرام وصحبه الميامين، والتي تشتكي اليوم من الفساد المالي والاداري ومن سوء الخدمات وانعدام النظافة والفوضى في البناء وتنظيم المدن وكذلك من فشل مشاريع البناء والاعمار، ثم يبررون كل ذلك بانتمائهم الى مذهب الامام او الى هذا الحزب الديني او ذاك، هم ممن ينتظرون الامام؟.
ان الانتظار عهد ومسؤولية والتزام، ووعي للذات وللفكرة التي يجب ان تنتج مجتمعا سليما غير معاق، تحكمه العلاقات الاجتماعية السليمة، السلطة السياسية فيه تتعامل برحمة مع الناس، فلا تتجاوز على حقوقهم ولا تقصر في خدمتهم ولا تسرق قوت يومهم، اقامة العدل همها، والمساواة وتكافؤ الفرص ادواتها.
اما الناس في هذا المجتمع، فتتكافأ دماءهم، رحماء بينهم، لا يظلم احد احدا، الايثار فيه قبل الاستئثار، والنصيحة قبل الغش والكذب، والمبادرة للعمل الصالح قبل تبرير الفشل، وطلب العلم قبل والسعي للتقدم والرقي قبل قضاء الفراغ بما ينفع الانسان لا في دنياه ولا في آخرته، يؤدي الواجبات قبل ان يسعى للمستحبات، ويحافظ على حقوق الاخرين ولا يعتدي عليها قبل حقوقه، ويبادر الى انجاز الواجب الذي عليه قبل ان يطالب الاخرين بواجباتهم.
اخيرا، فان علينا ان نتذكر بان وجود الامام المهدي (عج) في حياتنا هو بمثابة الرقيب، ولذلك يلزمنا ان لا نلفظ بقول قبل ان نتحقق منه، ولا نقدم على عمل الا بعد ان نتاكد من انه يخدم الصالح العام ولا يضر باحد.