- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
السياسة الخارجية العراقية بين ضبابية الأهداف وقصور الأدوات
بقلم: د. نعمة العبادي
على الرغم من أن جميع بنود حزمة السياسات العامة العراقية مثقلة بتركة سيئة في مجالها وتحديات جمة لواقعها كما هو حال السياسة الاقتصادية والأمنية، إلا أن السياسة الخارجية العراقية تتفرد بواقع أكثر تعقيدا وأشد حساسية وتأزما. منذ الحرب العراقية – الإيرانية في عام 1980 والعراق على حافة التدويل في مجمل شؤونه إلى أن جاءت الضربة القاصمة بعد احتلال الكويت في آب عام 1990، فنقلت مقدرات العراق إلى اليد الخارجية بدءاً من المؤسسات الدولية كالأمم المتحدة ومجلس الأمن وانتهاء بالدول الكبرى كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية.
العلاقات المأزومة مع اغلب الجوار العراقي والمنطقة ،بل والعالم، والملفات الشائكة المتصلة بنزاعات منتهية وأذيال صراعات لم تنته ،وامتدادات لسياسة لم تكن تبحث عن مصلحة وطنها وشعبها بقدر البحث عن السمعة وإرضاء النزوات النفسية وممارسة الشيطنة السياسية والتلهي بالمشكلات والأزمات، كل هذا من جهة، وحزمة لم يسبق للمؤسسة الدولية أن أخذتها من قرارات جائرة تم اتخاذها للفترة من عام 1990 والى عام 2003 وبشكل متوالي ومتلاحق في إطار تكبيل العراق وتجويع شعبه وفرض الوصاية الدولية عليه, من جهة أخرى، بالإضافة إلى جهاز دبلوماسي كان الأقرب إلى جهاز امني منه إلى العمل الدبلوماسي، وحصول التغيير عبر الاحتلال واجتياح قوات عسكرية مسكت زمام بناء الحياة السياسية بعد انتهاء صفحة المعارك المباشرة ,كل هذه الأسباب ،جعلت السياسة الخارجية في مأزق وورطة حقيقية لا تحسد عليها.
في جميع الدول التي تمر بتحولات تواجه سياستها الخارجية لفترة ما مشكلة الضبابية في توجهاتها وضعف أدائها والتباس رؤية الآخرين حولها،إلا أن هذا لا ينبغي أن يستمر طويلا لأنه عامل ضار جدا بسرعة التحول الايجابي للدولة وبناء استقرارها، ولما كان العراق يمر في فترة تحول فمن الطبيعي أن يأخذ وقتا مناسبا لتوضيح معالم سياسته الخارجية.
هذا الأمر طبيعي في الفترة التي سبقت كتابة الدستور وإدارة الحاكم المدني الأمريكي ،بل والحكومة الانتقالية الأولى ،إلا أننا نتحدث اليوم بعد مضي أكثر من ثماني سنوات على التغيير ، وبعد مرور أكثر من ست سنوات على إقرار الدستور وبعد انتخابات وطنية لمرتين وبعد إنفاق أرقام خرافية من مليارات الدولارات في مجال بناء الدولة وخصوصا السياسية الخارجية، فهل أن نظرة وفلسفة وسلوك السياسة الخارجية العراقية في وضعا الحالي مقبولا ومبررا؟ وأين يكمن جوهر المشكلة فيها؟
البعض عندما يجري الحديث عن السياسة الخارجية يخلط بينها وبين العلاقات الدولية وحتى الدبلوماسية في أحيان أخرى، وعندما أتحدث عن البعض هنا لا اقصد عموم الناس ،بل النخبة السياسية ،فقد يصل الأمر إلى مستوى عضو في مجلس النواب أو سياسي كبير في حزب مهم وأحيانا حتى وزير.
ليس من شأن هذه المقالة أن تقدم تعريفات علمية إلا أن الضرورة العملية ألجأتنا إلى ذلك ،فالسياسة الخارجية هي الإطار العام الذي يرسم توجهات وعقيدة ومصالح وأهداف وتحديات دولة ما في مجال علاقاتها مع الآخرين والمعبر عنها بالعلاقات الخارجية ،بحيث تأتي هذه السياسية مطابقة ومحققة للأهداف الكبرى المنظورة والمتأمل تحقيقها.. وفي هذا السياق تأتي العلاقات الخارجية كأداة من جهة ومساحة تطبيق السياسة الخارجية.
في السياسة الخارجية كما هو الحال في بقية السياسات العامة الأخرى لابد من وجود منطلقات ومبادئ ومرجعيات تتأسس عليها هذه السياسية وتبني رؤيتها، كما لا بد من أهداف كبرى بعيدة المدى وأخرى متوسطة ومرحلية، وكذلك لا بد من وعي واضح للتحديات والمعوقات التي تواجه هذه السياسة وأيضا لا بد من إدراك علمي وعملي للأدوات والإمكانات المتاحة لتنفيذ هذه السياسة سواء في مجال القوة الصلبة أو الناعمة، والشرط الأساس لا بد أن تكون السياسة الخارجية منسجمة ومتوازية مع السياسات الداخلية ومعبرة عن رؤية البلد وتوجهاته.
حدد الدستور العراقي المعالم الأساس لطبيعية العلاقات العراقية مع الآخرين وضرورة بنائها على أساس الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة ،وطالب بضرورة إقامة علاقات ايجابية ومتينة مع كل دول العالم وخصوصا جوار العراق ،إلا أن هذه الإشارات ليست كافية في رسم سياسية خارجية تستطيع إعانة العراق في الظرف المعقد الذي يمر به.
من المفروض أن تكون لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب وبمساعدة وزارة الخارجية العراقية والجهات الساندة الأخرى مسؤولة عن رسم ستراتيجية واضحة ومتكاملة للسياسة الخارجية العراقية ومسار علاقات العراق الدولية وطبيعة مصالحنا، إلا أن هذا لم يحصل واقعا لأسباب عديدة منها، أن اللجنة المذكورة حالها كحال اللجان الأخرى خاضعة إلى الحصص بحسب مقاعد الكتل, بل هي اللجنة الأكثر تنافسا ,فبحسب احد الأصدقاء من أعضاء مجلس النواب ،قال: عندما بدء موضوع توزيع الأعضاء على اللجان ،طالبنا أعضاء الكتلة أن يكتبوا ما هي اللجنة التي تناسب توجهاتهم والتي يجدون أنفسهم فاعلين فيها؟ فكتب أكثر من ثلثي أعضاء الكتلة أنهم يريدون العمل في لجنة العلاقات الخارجية.
هذا التنافس المحموم وآلية المحاصصة جعلت من اللجنة لا ترقى إلى مستوى المهمة والتحديات التي ينبغي القيام بها، وهذه الإشارة مني ليست تحليلا أو رجما بالغيب، بل هي معلومات من خلال أحاديث مباشرة من إخوة وأخوات عملوا في هذه اللجنة سواء في الدورة البرلمانية السابقة أو الحالية، والسبب الثاني هو ضعف أو انعدام التعاون والتنسيق مع وزارة الخارجية ، حيث يشتكي اغلب أعضاء اللجنة من تعالي وقطيعة وزارة الخارجية لأعمال اللجنة ،فبحسب احد أعضائها السابقين قال أرسلنا عشرات الكتب لطلب معلومات أو إرسال ملفات أو للوقوف على أمور نحتاجها في عمل اللجنة ولكن الخارجية تعطينا الأذن الطرشاء ولا تجيب، يضاف إلى ذلك تعقد الوضع الداخلي والتباين الشديد بين وجهات نظر الكتل والقوى والشخصيات السياسية إلى حد التقاطع التام فيما يتعلق باتجاهات بوصلة السياسة الخارجية ومسار علاقات العراق الدولية ,وأخيرا تدخل العامل الخارجي وضغطه المباشر مما يجعل الدفاع عن المصلحة العراقية في غاية الصعوبة والتعقيد.
إشكالية ضبابية التوجه وبلورة العنوان المميز حالة عامة في واقع الدولة العراقية الجديدة ،فنحن دولة فدرالية اتحادية وفي نفس الوقت مركزية ،والاقتصاد العراقي غير واضح المعالم ولا نعرف إلى أي مدرسة اقتصادية أو أنموذج ينتمي، فهناك خلط بين اقتصاد اشتراكي وآخر رأسمالي وتوجه متصاعد إلى اقتصاد السوق الحر مقابل تمسك شديد بالقطاع العام في مجالات كثيرة, والحال يسري في كل مجالات الدولة العراقية، لذلك فإن السياسية الخارجية كغيرها من السياسات العامة تعاني من التلبد والضبابية والقصور ،بل والتناقض في بعض مجالاتها.
لا توجد إستراتيجية واضحة تحدد مدى حدود علاقات العراق ومصالحه مع جواره ومع البلاد العربية ومع أوربا وأمريكا وأمريكا اللاتينية واسيا وأفريقيا، فالأمر في الواقع لا يتعدى عن كونه محاولة في إطار العلاقات الدولية القائمة على أساس التحرك في ظل معطيات الحاضر وردود الأفعال وسياسية الفعل ورد الفعل، كما أن الأهداف الكبرى لسياستنا الخارجية غير واضحة ومشخصة ، ولعل الأمر يقتصر على أهداف مرحلية ومكاسب آنية.
لقد تعثر العراق في تسوية الكثير من متعلقاته الخارجية سواء مع المؤسسة الدولية أو مع الدول كما هو الحال مع الكويت وإيران وتركيا وحتى أميركا، فضلا عن ضعف الانجازات في المجال الدبلوماسي ودخول العراق في مواقف متضادة لقضايا معينة بسبب انعكاس التضاد الداخلي على السياسية الخارجية العراقية.
إذا كانت السياسية الخارجية ضرورة للدول منذ التاريخ القديم ،فهي عامل مصيري في بقائها اليوم وتتأكد أهميتها للدولة التي تعاني من التدويل لشؤونها والدول قيد التحول والدول ذات المصالح المتشابكة مع العالم, والعراق أنموذج لكل هذه الحالات، فهناك قضايا لا بد من تصفيتها وطيها وعلاقات لا مناص من تغيير وجهتها ومصالح ينبغي البحث عن سبل جديدة لتحقيقها.
والسؤال الأهم من أين نبدأ وكيف نبدأ؟ لست هنا في إطار رسم خارطة طريق للسياسة الخارجية العراقية، إلا أنني سوف أعطي المعالم العامة التي أتمنى أن ينظر لها صانع القرار العراقي بعين الاعتبار.
هناك رزمة من الأسئلة لا بد من انجاز جوابها بشكل مشترك وتوافقي بحيث تمثل أرضية الانطلاق لرسم السياسية الخارجية العراقية منها، ما هي هوية العراق الجديد واقعا بعيدا عن الإجابات الهلامية؟ ومن هم الأعداء الواقعيون والمحتملون له؟ ومن هم الأصدقاء والحلفاء الاستراتيجيون وأصدقاء المصالح الطارئة؟ كيف نوزع ثقل علاقاتنا وامتداداتها بين العالم المترامي ،بمعنى إلى أي مدى ينبغي أن نمتد مع روسيا وهكذا الأمر بالنسبة إلى الصين والدول العربية...الخ من الدول؟ ما هي الأهداف التي تتفق عليها الكتل والقوى السياسية الرئيسة وما هي مناطق النزاع أو التقاطع فيما يتصل بعلاقات العراق الخارجية؟ ما هي الأدوات الواقعية التي نمتلكها لتنفيذ سياستنا الخارجية؟ وما هي التحديات الرئيسة التي تواجهنا في تحقيق تلك الأهداف؟ وما هي الاستحقاقات بحسب أهميتها التي لا بد للسياسة الخارجية العراقية أن تستهدفها؟ وأخيرا لا بد من إجراء مراجعة وتقييم موضوعي لسياستنا الخارجية قبل وبعد عام 2003.
فريق من الخبراء ومؤسسات فكرية مختصة ونخبة من أعضاء مجلس النواب بالإضافة إلى الدوائر ذات الشأن في وزارة الخارجية والوزارات ذات العلاقة وبتوظيف الخبرات الدولية الناجحة، هم من ينبغي لهم العمل على رسم سياسية خارجية عراقية ناجحة تتجاوز إشكالية ضبابية الأهداف وقصور الأدوات
مدير المركز العراقي للبحوث والدراسات
أقرأ ايضاً
- اهمية ربط خطوط سكك الحديد العراقية مع دول المنطقة
- الإعلام الحسيني.. الأهداف والخصائص
- حماية الاموال العراقية قبل الانهيار