تعالوا، اولا، نتصور المشهد التالي:
حاكم ظالم متجبر يحمل سوطا يتوسط مجلسه في قصر الامارة في الشام، وقد التف حوله عدد كبير من الجلاوزة لحمايته وتقديم ما لذ وطاب من الطعام والشراب، له ولضيوفه من مندوبين اجانب ووزراء ومسؤولين في الدولة، بانتظار ان يستعرض انتصاراته العسكرية الباهرة التي حققها في العراق على فئة صغيرة من الرجال والشباب والصغار.
في الاثناء، يدخل ركب من السبايا، يتالف من مجموعة من النساء والاطفال ومعهم رجل مريض انهكته (الجامعة) التي طوقت يديه ورجليه مشدودة الى رقبته النحيفة.
في الركب (المهزوم) امراة تسمى زينب بنت علي بن ابي طالب بنت فاطمة الزهراء بنت محمد بن عبد الله، رسول الله (ص).
فجاة، ومن دون سابق انذار، اذا بهذه المراة تنتفض واقفة بشموخ وهيبة امام (الحاكم) المنتصر، وجميع الحضور، تخاطبه من دون استئذان، قائلة: بعد ان ذكرت الله تعالى وحمدته وصلت على رسول الله وآل بيته الكرام الطيبين الطاهرين، وتلت الاية الكريمة {ثم كان عاقبة الذين اساؤوا السوءا ان كذبوا بايات الله وكانوا بها يستهزئون}:
اظننت يا يزيد، حين اخذت علينا اقطار الارض وآفاق السماء، فاصبحنا نساق كما تساق الاسارى ان بنا على الله هوانا، وبك عليه كرامة، وان ذلك لعظم خطرك عنده؟ فشمخت بانفك، ونظرت في عطفك، جذلان مسرورا، حين رايت الدنيا لك مستوسقة، والامور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلا مهلا، انسيت قول الله تعالى {ولا يحسبن الذين كفروا انهما نملي لهم خير لانفسهم، انما نملي لهم ليزدادوا اثما ولهم عذاب مهين} لتنزل هذه الكلمات، كالصاعقة التي احرقت عرش الظالم ودمرت كبرياءه.
والى هنا تكون زينب قد تحدت الحاكم في عقر داره مرتين، وامام مراى ومسمع ضيوفه واركان دولته، المرة الاولى عندما تحدثت قبل ان تستاذنه، والثانية عندما خاطبته باسمه من دون ان تسبقه باية صفة من تلك الصفات التي يسطرها المتحدثون عادة في مجالس الحكام، خاصة مجالس الطغاة، وعلى وجه الخصوص عندما يكونون في موقف المنتصر عسكريا في معركة او حرب ما، لاستدرار نظرة عطف من الحاكم لهم، فيغدق عليهم بصرة من مال او منصب في الدولة، او ما اشبه.
اما زينب المنتصرة، فليست من هذه النماذج ابدا، واقول منتصرة، ليس بالسيف او في ساحة المعركة ابدا، وانما تمثل انتصارها بقول كلمة حق عند سلطان جائر، وتلك هي قمة الانتصار.
فعندما يتجلد المرء بالصبر عند الهزيمة المادية، ولا ينحني للظالم، او ينكسر امامه، ولا يخضع له، ويظل رابط الجاش شجاعا لا تهزه المحن، عندها سينزل بخصمه اشد الهزيمة، وان بدا منتصرا عليه، فالنصر لا يقاس بمساحة الارض التي يستولي عليها (المنتصر) كما ان الهزيمة لا تقاس بعدد الرؤوس التي تتطاير في ساحة المعركة، انما يقاس النصر والهزيمة بما تصيب المعركة من الارادة، فاذا ثبتت ولم تتزعزع، ظل المرء منتصرا حتى اذا خسر كل شئ في ساحة المعركة، وتلك هي هزيمة النظام السياسي الاموي على يد زينب بنت علي عليهما السلام حفيدة رسول الله (ص).
وهل غير زينب شهد لها التاريخ بمثل هذا الموقف البطولي الرائع؟.
هل سمعتم بامراة قتل اهل بيتها وانصارها في ساحة المعركة، ثم تساق اسيرة مكبلة بالسلاسل مع مجموعة من النساء والاطفال بالاضافة الى ابن اخ لها كان مريضا، ثم تقف في مجلس الحاكم المتجبر غير خائفة ولا مترددة ولا مرتعدة ولا متعتعة، لتخاطبه، من دون استئذان وبلا القاب، بلسان عربي فصيح وبلاغة لغوية ليس لها مثيل، وبشموخ واباء علويين؟.
لقد لخصت زينب محتوى كلمتها، بمنطوق الاية التي افتتحت بها خطبتها البليغة، فلقد قالت للطاغوت بهذه الاية، بانك فعلت منكرا فكذبت بآيات الله تعالى واستهزأت بها.
انها استنكرت فعلته الشنيعة بلا جدال، لان سلاحها كان اليقين اما سلاح الطاغوت فقد كان الكفر والاستهزاء.
بعد ذلك، نبهته ومن يستمع لها او يقرا خطابها الى يوم الدين، الى حقيقة في غاية الاهمية، وهي ان (الانتصار) ليس دليلا على احقية صاحبه، كما ان الهزيمة ليست دليلا على بطلان دعوة صاحبها، وانما مقياس الحق والباطل هو العاقبة ومنقلب الانسان، فـ {الاعمال بخواتيمها} كما في الحديث النبوي الشريف.
ان الناس عادة ما ينظرون الى الامور بشكل سطحي فلا يتعمقون بالعواقب وما تؤول اليه الامور، ولذلك نرى اكثرهم يقفون مع المنتصر والفائز بغض النظر عن جوهر الانتصار والفوز، ومن دون البحث في حقيقته، ولذلك فان الطغاة يشيعون دائما وراء كل فوز او انتصار بان ذلك دليل على انهم على حق، وان ما حققوه من انتصار على (العدو) كان من الله ليوهموا الناس بانهم يضربون بسيف الله ويحكمون بارادة الله، ولذلك فهم ظل الله في الارض، فهل يحق لاحد بعد كل هذه الادلة والبراهين ان يخرج عليهم بقول او فعل؟.
انهم يحصنون سلطتهم الباطلة بمثل هذه التوصيفات لتخدير الناس ليناموا على طول اللدم، ليصل اليهم طالبهم.
لقد خاطب (الرئيس العراقي) الاسبق احمد حسن البكر وفد اهالي مدينتي كربلاء المقدسة والنجف الاشرف عندما زاره في القصر الجمهوري في العاصمة بغداد بعيد انتفاضة صفر المظفرة في عام (1977) والتي كان النظام البائد قد قمعها بشكل تعسفي راح ضحيتها المئات من الشهداء والسجناء، خاطبهم بهذا المنطق عندما قال لهم (ان تمكننا من الغوغاء والسيطرة على الاوضاع العامة، دليل على اننا على حق وان الله تعالى معنا، فلماذا يحاول الناس بين الفترة والاخرى ازاحتنا عن السلطة)؟.
لقد ظل الطاغية الذليل صدام حسين يسجل (الانتصارات) الواحد تلو الاخر، فتارة على شعبنا الكردي في الشمال، واخرى على شعبنا العربي في الوسط والجنوب، وثالثة على الشعب الايراني في الشرق ورابعة على الشعب الكويتي في اقصى الجنوب، ولقد ظل يخدع السذج والبسطاء من العراقيين، و المنتفعين والمنافقين من شعوب (امة العرب المجيدة) فماذا كانت المحصلة النهائية لكل تلك (الانتصارات)؟ الجواب اخراجه من بالوعة ضائعة وسط الصحراء خائف ذليل ترتعد فرائصه.
ان الطاغوت يبذل عادة كل جهد ممكن من اجل خداع الناس وتضليلهم، من اجل اقناعهم باحقية موقفه وقراره في كل الاحوال، ولذلك تختلط المفاهيم والعبارات عند الناس وهم يستمعون الى اعلام الطاغوت، كما هو الحال اليوم مثلا مع نظام آل سعود وحزبه الوهابي الذي يصدر فقهاءه الفتاوى لخدمة اهدافه الضالة واجنداته المشبوهة، لقتل عقل الانسان قبل قتل جسده.
ان دعاية الطاغوت تخلط الاوراق في عقول الناس، من اجل ان تقلب المفاهيم والمعاني، اذا بسبط الرسول الكريم (ص) يتحول الى خارجي وبنت الرسالة الى امة والحق باطلا، وشارب الخمر وقاتل النفس المحترمة واللاعب بالقرود الى امير للمؤمنين، ثم تقلب الدعاية الهزيمة الى نصر والنصر الى هزيمة وهكذا، وكل ذلك من اجل تضييع الحقائق، بعد الاستخفاف بعقول الناس.
اذن، ليس كل منتصر، له كرامة عند الله تعالى، كما انه ليس كل مهزوم له هوانا عليه سبحانه وتعالى ابدا، فلقد قتل الانبياء والرسل والصالحين والاولياء على مدى تاريخ البشرية، وقتل قابيل هابيل، كما انتصر الطغاة الجبابرة والقتلة والمجرمين والحكام الظالمين، فماذا كانت النتيجة؟ هل يعقل ان نقول بان الضحايا كانوا دوما اهون على الله تعالى من الطغاة والجبابرة؟ بالتاكيد كلا والف كلا؟.
ولو كان النصر دليل احقية صاحبه، فهذا يعني اننا يجب ان نسلم باحقية اسرائيل التي حققت الانتصار تلو الانتصار على العرب والمسلمين في كل حرب دخلتها معهم، منذ العام 1948 ولحد الان، فما رايكم ايها العرب والمسلمون؟ هل تسلمون بحقها؟ ام تغيرون طريقة تفكيركم، وتعيدون النظر في متبنياتكم ومسلماتكم؟.
ثم تستمر زينب في خطبتها فتقول:
امن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك واماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا؟.
لقد نبهت زينب الطاغية والمستمعين ممن غسلت عقولهم ماكينة الدعاية الاموية من ان هذا الذي تحدثه ليس الا طليق وابن طليق ولذلك لا يحق له ان يجلس في هذا المكان، وان وجوده الان على مقعد الرئاسة خلاف كل الاعراف والمواثيق الدينية والدنيوية، في محاولة منها للكشف عن الحقائق الدامغة التي يعنيها ان يكون طاغية مثل يزيد حاكما للمسلمين.
ثم تكرر المفهوم بقولها:
الا فالعجب كل العجب لقتل حزب الله النجباء، بحزب الشيطان الطلقاء.
ثم تختتم خطبتها بقسم نطقت به على لسان الوحي، فظل خالدا ابد الدهر، وكانها تقرا المستقبل ليس المنظور ابدا، وانما الممتد الى يوم القيامة، بقولها:
فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها، وهل رايك الا فند؟ وايامك الا عدد؟ وجمعك الا بدد؟ يوم ينادي المنادي الا لعنة الله على الظالمين.
انه كقسم ابيها امير المؤمنين علي بن ابي طالب عندما ضربه المجرم بسيفه المسموم في محراب الصلاة، في مسجد الكوفة قائلا {فوز ورب الكعبة} وهل تجرؤ غير زينب ابنة علي ان تقسم بهذا الشكل؟ الا تخاف ان يكذبها الزمن؟ الا تخشى ان يطمس الطغاة ذكر الحسين السبط فيفتضح قسمها؟ الا يعني انها كانت واثقة جدا مما تقول، من دون تردد او خوف او احتمال؟ الا يعني انها كانت في تلك اللحظة في قمة الثقة بالله تعالى واليقين بوعده، لدرجة لو كشف لها الغطاء في تلك اللحظة لما ازدادت يقينا؟.
تعالوا الان نتعلم الدروس التالية من هذا الموقف الزينبي العظيم، خاصة النساء، فالمراة اولى من الرجل بزينب لتاخذ منها الدرس البليغ:
اولا: التحلي بالشجاعة في المواقف الصعبة، فلا تاخذنا في قول الصدق لومة لائم.
ثانيا: الحق يؤخذ ولا يعطى ابدا، ولذلك يجب ان لا نسكت عن حقوقنا التي ضيعها الطغاة والظالمين.
ثالثا: وضع المسؤول في حجمه الطبيعي فلا تاليه ولا عبادة للشخصية ولا هم يحزنون.
رابعا: ان نكون مع الحق، في كل الحالات، وليس مع المنتصر على اية حال.
فنكون مع الحق دائما، بغض النظر عن موقعه، افي السلطة ام خارجها، في السجن ام خارجه، منتصرا ام مهزوما، غنيا كان ام فقيرا، المهم ان نكون معه، ننصره ونقف معه وندعو له ونضحي من اجله، فلا نخذله او نتفرج عليه ونحن على نصره قادرون.
اما ان نكون معه اذا كان حاكما ونتخلى عنه اذا خسر السلطة، او ان نؤيده اذا كان منتصرا ونخذله اذا كان مسجونا، او ان نكون معه اذا كان ثريا، ولا نعرفه اذا افتقر، فان ذلك عين الوصولية والانانية والنفاق.
خامسا: ان نكون على يقين، فلا نتردد لكلمة نسمعها او خبر نقراه، خاصة في زمن الفتنة التي تزداد فيه الدعايات والشائعات والاكاذيب والاقاويل، وكل ذلك من اجل انتزاع الثقة واليقين من نفوسنا لتتلاعب بنا الاهواء فتتقاذفنا الشكوك لتغير او تبدل مسيرتنا وثوابتنا ومعتقداتنا.
سادسا: وكل هذه الصفات العظيمة لا يكتسبها الانسان الا اذا كان على علاقة حسنة مع ربه، فهو الذي يخيف كل شئ من عبده اذا خافه في السراء والضراء.
سابعا: ان اعظم طاغوت يتضاءل خطره ويتلاشى وجوده امام ارادة الانسان مهما كان ضعيفا اذا كان على حق ومتيقن من انه على حق، اما اذا شك في حقه وتردد في موقفه، فليس بامكانه ان يحقق شيئا ابدا.
ثامنا: انما يتغلب الانسان الضعيف المهزوم على الطاغوت المتجبر المنتصر، عندما لا يتوسم فيه خيرا، وعندما لا يمد يده الا الى الله، اما المرء الذي يتذلل لحاكم ويتودد لسلطان من اجل ما في يده، فليس بامكانه ان ينتزع منه حقا ابدا، فكيف يمكن لفقيه ان ياخذ الظالم على يديه اذا كان ينتظر مرتبه منه راس كل شهر؟.
تاسعا: ان نعرف قدر انفسنا، فنقول الحق ولو عليها، خاصة امام سلطان جائر، اما الفقهاء الذين يستلمون مرتباتهم الشهرية من السلطان فتراهم اذلاء عند بابه، فليس بامكانهم ان يقولوا كلمة الحق ابدا، بل انك تراهم يفبركون الفتاوى خدمة للسلطان وارضاءا لشهواته، كما هو حال فقهاء التكفير من وعاظ السلاطين وفقهاء بلاط آل سعود مثلا.
عاشرا: ان لا نسكت عن حق، ولا نخضع لباطل، ولا نتجاهل ظلم.
ان الطاغوت الذي ينزو على السلطة من دون تفويض من الناس او اختيار منهم، كأن ينزو عليها بالوراثة او بالانقلاب العسكري، او بالتآمر والقتل والفتك، كما هو شأن سلطة آل سعود الذين تمكنوا منها بالقتل والفتك عبر علاقة سفاح مع سلطة (الحزب الوهابي) الدينية، ان الطاغوت يبذل كل ما في وسعه من اجل تكميم الافواه ومنع الناس من الكلام والاعتراض والحديث عن الشان العام، انه يسخر سياسة النفي والابعاد للمعارضة، وكل ذلك، من اجل ان لا يفتضح امره، ولا تنكشف حقيقة الامور امام الملأ.
اما نحن فيجب ان لا نسكت، فنرفض محاولات الطاغوت تكميم الافواه، بل ان علينا ان نصرخ بقضايانا العادلة، ونتحدث فيها وعنها بكل شكل من الاشكال.
لقد سال رجل الامام السبط الحسن المجتبى عليه السلام عن السياسة فقال {السياسة ان ترعى حقوق الله وحقوق الاحياء وحقوق الاموات} ثم اضاف {وان تخلص لولي الامر ما اخلص لامته، وترفع عقيرتك في وجهه اذا ما حاد عن الطريق السوي}.
حادي عشر: ان نبادر الى تبليغ الرسالة في كل الظروف والحالات.
اننا اصحاب رسالة ينبغي ان لا نتباطا في تبليغها، او نتهاون في ايصالها الى اسماع العالم، فالى متى تظل شعوبنا ترزح تحت نير انظمة سياسية استبدادية شمولية تحكم بالحديد والنار وتكميم الافواه، تسحق حقوق المواطن سحقا، وتهين كرامته وتعتدي على حقوقه؟.
الى متى تظل شعوبنا اغلبيتها جاهلة امية، تعاني من شتى الامراض، لا تجد قوت يومها، تحصدها الحروب العبثية، او الفتن الداخلية التي يغذيها البترو دولار وفتاوى فقهاء التكفير؟ فيما تنعم حفنة من الحكام وجلاوزتهم بخيراتها وما انعم الله تعالى عليها؟.
الى متى تعاني شعوبنا من سياسات التجهيل والتمييز الاثني والطائفي وغير ذلك؟.
لو اننا التزمنا بالنهج الزينبي، فتمسكنا بحقوقنا ونصرنا الحق وجانبنا الباطل، ووقفنا مع المظلوم ضد الظالم، لغيرنا اشياء، ولتبدل حالنا الى احسن حال، ولما بقينا نسير في نهاية ركب البشرية، وكاننا عبيد لحكام مستبدين جهلة انبطحوا امام القوي من اجل السلطة فحسب.، فقدموا البترول على طبق من ذهب مقابل تعهد بحماية سلطة العائلة، آل سعود نموذجا.
لقد رسمت زينب عليها السلام معالم حقوق المراة، فلنبادر الى افراد فصول خاصة في مواد التاريخ والتربية والتعليم عن هذه المدرسة الحية التي جسدت في مواقفها كل معاني البطولة والشجاعة والحرية والارادة والحق، لنقدم بها انموذجا يحتذى لبناتنا بدلا عن النماذج المدمرة التي تقدمها الفضائيات.
والان:
الا تتفقون معي كون زينب عليها السلام معجزة؟.