وقفت في احد مؤلفات الدكتور علي الوردي على فكرة مفادها ان العراقيين وبسبب ما عاشوه من ترد وانحطاط اجتماعي طوال خمسة قرون من حكم بني عثمان صاروا يتخذون امثلتهم العليا من شرائح يُفترض ان تكون تجسيدا حياً لحثالة اي مجتمع معافى، وكان الوردي يشير بذلك بذلك تحديدا الى شخصية الشقاوة ، تلك الشخصية التي غدت في عيون الناس انذاك انموذجا يحسن الاقتداء به على اكثر من صعيد ومدعاة للتفاخر والمباهاة بين حي واخر ومحلة واخرى. ورغم ان المفكر العراقي الكبير يعزو اهتزاز النظرة فيما يخص الشخصية القدوة او (الشخصية الكارزمية) الى اسباب البؤس والقهر والحرمان والانكسارات النفسية الهائلة التي اخذت من اهل العراق كل مأخذ في تلك الحقبة المظلمة الا انه في ذات الوقت يمنح القاريء انطباعا في ان مجرد فكرة البحث عن قدوة جديرة بالاتباع او التأثر في اي مجتمع انساني يعد دليلا مهما على وجود حاجة اجتماعية لابد من اشباعها وفراغ هائل لابد من ملئه ووظيفة هامة على المجتمع ان يختار لها شخصية مناسبة بحسب ظروفه واحواله . والمجتمع بهذا الاختيار وبافتراض عدم وجود اجندة سياسية داخلية او خارجية تحركه يمارس لا شعوريا عملية انتخاب ديمقراطي حقيقية تجري باقصى درجات العفوية ولا تحتاج الى كثير من ابواق الدعاية والاعلام للتدليل على مدى صدقها ونزاهتها كما ان سر الاهمية في هذا المنصب الاجتماعي الخطير يتجلى في كونه عنصرا جوهريا من عناصر وحدة المجتمع ينفخ قويا في الروح التي تربط فيما بين اوصاله ويقف سدا منيعا دون تفككه وانحلاله .
ان امثال شخصية الشقي المشار اليها آنفا شخصيات كثيرة بدأت قسماتها الحادة تتشكل في وعي جمهور غفير من العراقيين في الاونة الاخيرة بل امتلك البعض منها زمام السطوة والابهار وباتت في بعض الاوساط جاهزة لتسيد الموقف الاخلاقي كشخصية العلاس والصكاك والامير والمخبر السري والسياسي اللص .
ان استكشافا سريعا لمنصب القدوة بمعناه الايجابي في تاريخ العراق المعاصر يفضي بنا من دون شك الى شخصية المعلم تلك الشخصية التي رسمت في مخيلة كل شخصية اخرى صادفتها صورة من التبجيل والتوقير ماتزال عصية على عوامل الاندثار والنسيان خاصة مع الجيل الذي عاصر المعلم ايام تسنمه المرتبة العليا في السلم الاجتماعي ، ولعل للمعلم نظراء لا يقلون عنه في الرتبة والمقام وقعوا فريسة ظروف التخلف والانحطاط في المجتمع مثل شخصية السياسي الشريف .
ان العراق يمر بظرف هو الاخطر في حضارته وان هذه الحقبة الاليمة ستحفر عميقا في وجدانه وفي ذاكرته ولعلّي لا اكون مغاليا حين اتصور عالما مقبلا لا يقيم وزنا للام والوطن والاخلاق الفاضلة كلها جميعها وهو في ذات الوقت يكن اقصى درجات التقديس لما نعتبره حتى الان من قبيل الشذوذ والمنكرات اذا لم تبادر الوطنية العراقية متمثلة اولا وقبل كل شيء بنخبة الفنانين والادباء فتعيد الاحترام المسلوب لنماذج اخلاقية رفيعة المستوى كشخصيتي المعلم الاب والسياسي النزيه وتُسقط من الاعتبار سائر الشخصيات الاخرى التي يجمعها قاسمان مشتركان هما الخيانة والفساد .
أقرأ ايضاً
- أزمة منصب رئيس السلطة التشريعية في بوصلة المرجعية
- فقر المنصب
- العمل بمسؤولية وكفاءة أهم من المنصب والانتماء السياسي.