ما شكلُ حنّون، ما خلقتُهُ وحجمه؟ ما طبقته أو عرقُهُ أو مذهبُهُ؟ يقيناً لا يهمّ. إنسان وكفى. مهما وُجد فيه من عوجٍ وأمْت. على ملء الثقة، أرضعته أمُّهُ حليباً حنوناً. ناغته ونامت إلى جانبه ساهرة بنصف عين. لا بدّ أنّ أباه أخذ بيده وحذّره من رفقة السوء. لكنْ ما الذي زيّن للشاعر القول:
ما زاد حنّون في الإسلام خردلةً
ولا النصارى لهمْ شغلٌ بحنّونِ
هل كان هذا ا لشاعر مازحاً أمْ ساخرا في هذا الترصيف؟ أكان بين شلّةٍ من المتتعتعين، أو السياسيين الحالمين، ليترضّاهم، أم أنّه أراد أن يدخل بهذه الثرثرة التي لا هاجس لها، الضحك السادر في بطونهم، لقتل الوقت، والتفاؤل بالحمل الكاذب.
جادّاً أمْ هازلاً لقد سنّ هذا الشاعر بهذا الخليط المليط، شريعةً ذهبَ هو، وذهبتْ هي مثلاً.
الأديان نزلت من أجل حنون. شريعة حمورابي كتبته على الطين المفخور في أشهر مسلّة. كلّ الدساتير الوضعية. إلاّ هذا الشاعر. وقف ضدّ الإنسان كإنسان. قرأناه وكأنه حقّ لا جمجمة فيه. ما زلنا نردّد بحلاوة بلاغية، وتشفّ، ومِرّة \"أمْ قدرهُ وهو بالفلسيْن مردود؟\" ما زال العراقيون يسفّلون الإنسان فيقارنونه بالفلس. ويقارن المصريون إنسانهم بالنكلة. في البلدان الديمقراطية ، يتقاطر ممثلو الأحزاب على باب حنّون، يقنعونه بالتصويت لمناهجهم، ويردّون على كل وساوسه. ولو وقفتَ تلوّح بالمليون جنيه، لمحاسب المصرف، وأمامك حنون بالطابور، يتفاوض على قرض، فوق قرض سابق، فلهذا الحنّون كلّ ما يلزمه من وقت لإطفاء حاجته، وإكمال معاملته.
ضعْ حنّون هذا في أدبنا، ستجدُهُ لا أحد وكلّ أحد. ففي شريعة شاعرنا ذاك يستطيع أيّ متسلط أن يجعل من الخردلة إنساناً ومن الإنسان خردلة من باب تحصيل الحاصل. الأدب العظيم رادع عظيم، لا يستصغر أقلّ صغير. يتأمّل الفأرة، فيرى إلى جانبها سدّ مأرب. يتأمّل النملة فيرى فيها كلّ حكمة الاقتصاد. ينظر إلى إنسان متفسخ لا أصل له ولا أب، فيرى كيف يؤول نصاب الأمورإليه كما فعل شيكسبير في مسرحية الملك جون. إلاّ هذه الشريعة الموتورة، بجدّ أم ضحك، تطرد الإنسان من حظيرة الإنسان.لا أدلّ على ذلك من شيوع الهجاء في أدبنا، يُعيّر فيه المهجوّ بقبح العين والأنف والفم، أو العرج والعور والطرش، بالفصل والأصل وحتى العرض والأمّ.. هكذا يمهّد الشاعر لذي الحكم أن يجعل من الخردلة إنساناً ومن الإنسان خردلة. يفترض ذو الحكم على مثابة ذلك الشاعر التشوّه الخلقي أو الخلقي في أحدنا، فيحكم عليه كالشاعر الهجّاء بالطرد من الحضيرة البشرية.
الأدب العظيم إما رادع للحكم المطلق أو ممهّد له، حتى ولو كان أدباً جماليا محضاً..
في الماضي أقصينا الأطفال، فلم يدخلوا في أدبنا الجاد إلاّ مع أحمد شوقي والطهطاوي، وحكمنا اعلى النساء المسنّات، فما زدْنَ عن مجرّد نوادر وطرائف جنسية في \"الكشاكيل\" و \"الحماسات\"، وما إليها. حتى الصبايا لا يختار الشاعر إلاّ أجملهنّ في كلّ شيء، عيناً وفماً وجيداً وصدراً، وأدقّهنّ خصراً وأملأهنّ عجيزة، أماّ الباقيات فهوامش أنثوية لا يُعنى بها ولو كانت سميرة عزام أو جين أوستن أو فرجينيا وولف، وحتى تلك الأجملهنّ، لا تسبّح إلا بتمجيد: وهل يخفى القمر- عمر بن أبي ربيعة، أوبمعالجة دلع تثير حمّى وضّاح اليمن، وتؤجّجها. صبايا يُصوّرْن وقلوبهنّ على أفواههنّ وأدمغتهنّ محجورة كالعورات.
حينما يكون حنّون في أدبٍ ما، هُزَأة أو تَلعابة أو خردلة، فليبشر التخلّف بطول سلامة. عندئذ لا يكون السؤال، هل نحن نكره الإنسان ؟ بل لماذا؟
أقرأ ايضاً
- حين يقول لنا نور زهير "خلوها بيناتنه" !!
- كربلاء دولة الإنسانية والحسين عاصمتها
- حين تُستودع مصائر الكبار لدى أمزجة الصغار !