- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الإعداد الروحي.. الجفاف الروحي بين الأسباب والمعالجات - الجزء التاسع
بقلم: الشيخ محمود الحلي الخفاجي
4 ـ إعداد السماء لشخصية خاتمية النبوات:
إن من السنن الإلهية التي تحكم الوجود البشري هو وجود المُربي والمُوجه لهذا الوجود والدليل لهم إلى الله: (وصَلِّ اللّـهُمَّ عَلَى الدَّليلِ اِلَيْكَ فِي اللَّيْلِ الْاَلْيَلِ..)، هذا الدليل والمربي لابد أن تغذيه وترعاه يد السماء: (أدبني ربي فأحسن تأديبي)، لصياغته صياغة جديدة وفق المنظور الإلهي. لأنه سيكون هو المُنذر والمُبشر والمُبلغ لدين الله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا).
وهذه الصياغة التربوية الجديدة كانت وفق منهاج وإعداد روحي متكامل وفق ظرف زماني وهو (الليل) وتعبئة معنوية تشكل مادة هذا الظرف، وهي البرنامج الروحي: (قيام الليل والإنقطاع الى الله عزوجل وإحياءه بالعبادة وترتيل القرآن). وهذه المنهجية من حيث ظرفها الزماني تمت بثلاث مراحل:
- المرحلة الاولى:
مرحلة ما قبل الوحي: و هذه المرحلة اتصفت بصفات ذاتية انبعثت من نفس شخص(المُعَد) وهو شخص النبي (ص واله) وهي كثرة التأمل والتفكر في الوجود الكوني والحياة، والإختلاء والتعبد والتوجه الفطري الذاتي نحو الخالق المبدع والمدبر لهذا الكون، وصفة الإنعزال عن الحياة الإجتماعية وعدم الإختلاط مع أبناء تلك البيئة التي فيها ما فيها من الأفكار الفاسدة والعادات والتقاليد مفاهيم القبيلة والعشيرة.
إذن.. هذه صفات ذاتية وجدت معه وتولدت في شخصيته وهذا نحو من أنحاء البناء والإستعداد الذاتي والشأني في شخصيته(ص وآله).
- المرحلة الثانية:
مرحلة النزول الوحياني ونزول الأمر الإلهي بالتبليغ، واقترن هذا التبليغ الإلهي ونزول الوحي بإعداد روحي وتصعيد عبادي وهو قيام الليل والتهجد وترتيل القران.
- المرحلة الثالثة:
وهي مرحلة تزويد الشخصية بعناصر البناء الذاتي وطاقات روحية كالصبر: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرسل) و (وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا). والتوكل: (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا). فهذه مراحل الاعداد الإلهي وتهيئته لتحمل أعباء القول الثقيل ومواجهة التحديات والمصاعب والمحن التي سيواجهها.
إذن تهيأ وأعد نفسه (ص وآله ) لحمل القول الثقيل.
ـ فما هو القول الثقيل؟
جل المفسرين ومنهم صاحب تفسير الميزان يقولون القول الثقيل: هو القرآن، فننقل عبارة صاحب الميزان: - - القرآن قول الهي ثقيل بكلا المعنيين:
- الأول: من حيث تلقي معناه فانه كلام إلهي مأخوذ من ساحة العظمة والكبرياء، لا تتلقاه إلا نفس طاهرة من كل دنس، منقطع عن كل سبب إلا الله سبحانه، وقد كان ثقله مشهوداً من حال النبي (ص واله ).
- الثاني: من حيث التحقق بحقائق التوحيد وما يتبعها من الحقائق الإعتقادية، فكفى في الإشارة الى ثقله قوله تعالى: (لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۚ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، انتهى كلام صاحب الميزان (رض).
إذن.. القيام بأمر الدين وتبليغه من خلال ما جاء به القرآن وإقامة شعائر الإسلام وبيان معالمه وأحكامه، هذا كله واضح من خلال الآيات: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ () قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا () نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا () أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا () إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا () إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا () إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا () وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا () رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا () وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا). فتفيد بمقتضى السياق والخطاب الخاص بالنبي (ص واله ) بأن أمره بقيام الليل والتوجه إليه والعبادة هو تهيئة لمقام القرب وشرف قبول القول الثقيل، فكان قيام الليل بما يحمل من زاد روحي كبير هو السبيل الى شرف حمل الرسالة الالهية.
5 ـ الإعداد لتحمل المصاعب والتحدي الإجتماعي:
وهذا الشطر الثاني من مقاصد الإعداد الروحي لشخصية النبي (ص واله)، حيث كان الغرض الأول هو حمل أعباء القول الثقيل وتبليغ الرسالة الإلهية، أما الغرض الثاني من مقاصد الإعداد : هو صياغته لمواجهة المصاعب والمحن التي سيواجهها في سبيل إيصال هذا الدين الى البشرية، وهذا مستفاد من سياق الآيات القرآنية(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ()إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا). والسبح الطويل هو المشي السريع في النهار كناية عن غور الإنسان في الحياة ومهام طلب المعيشة وحركة الحياة العامة وبقية الأنشطة المختلفة فيه، وهذا معناه (والله العالم) إنك أيها النبي ستدخل غمار الحياة الشائكة، وتواجه أهواء الآخرين من المنافقين والمشركين والكفار، فتقع عليك مسؤولية الدعوة الى الحق بالمناصحة والمجادلة بالتي هي أحسن مع اتباع أسلوب المداراة والمعاملة المقترنة بحسن الخلق.
وقد شبه القران حركة الإنسان في الحياة العامة بالسباحة: (إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا)، حيث أن السباحة فيها الحركة الدائمة والكثيرة، وكأن القران الكريم له تصوير للمجتمع البشري إتجاه الحق، بتشبيهه بالبحر المتلاطم الأمواج والذي يغرق فيه كثير من الناس إذا لم يجيدوا فن السباحة، وهذه إشارة تحليلية الى أهمية وجود النبي (ص واله) الذي أعدته السماء وفق صياغة روحية متكاملة لخوض غمار أمواج الحياة ومصاعبها، وأن النبي (ص واله) هو الملجأ الآمن، وإن القرآن والشريعة هما السفينة، وإن هذا السباح العظيم المتقن لفنون سباحته في هذا البحر المتلاطم الأمواج لم يحصل على هذه القدرات الفائقة جداً لقيادة البشرية وانقاذهم من الضلال والإنحراف والفساد الإجتماعي والأخلاقي, إلا بعد أن أعد نفسه وهيأها بالعبادة والتهجد وترتيل القرآن الكريم والإنقطاع إليه تعالى، مع التحلي بطاقات الأخلاق الحميدة كالصبر والتوكل: (وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا).
اذن.. صياغته بالصبر وتحمل الأذى والمرابطة في محراب العبادة والتقوى وسوح الكفاح والمعاناة والإضطهاد من قبل الكفار والمنافقين، كان هذا الموقف هو الخيار البديل عن الخيارات الأخرى المطروحة في الساحة الإجتماعية أمامه (ص وآله) مثل التفرق والخصومة والتسابق من أجل الدنيا والتي من شأنها أن تهبط بالإنسان إلى المادية العمياء والتي لا تنتظم مع الصبر والإستقامة في مواجهة التحديات والمحن: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ..), فهذه الآية وضحت الصياغة الروحية لشخصية النبي (ص واله).
أقرأ ايضاً
- ماذا بعد لبنان / الجزء الأخير
- التكتيكات الإيرانيّة تُربِك منظومة الدفاعات الصهيو-أميركيّة
- مراقبة المكالمات في الأجهزة النقالة بين حماية الأمن الشخصي والضرورة الإجرائية - الجزء الأول