القاضي ناصر عمران
تشكل الشكلية المظهرية احد أهم متبنيات الأنظمة القضائية ذات الجذور الانجلو سكسونية فالمظهر الشكلي للقضاة وحسب الرؤية القضائية الانجليزية المعتمدة على نظام السوابق القضائية والمحاطة بالهالة الشكلية لمظهر المحاكمات المميزة يشكل حالة من الهيبة والسلطة واستقرار ذهني للمتلقي والناظر لتهيئة مداركه الحسية والنفسية ازاء المشهد الوقر للمحكمة وللقضاة. وتشكل الكسوة الخاصة والتي يتم ارتدائها من قبل القضاة الصورة الاكثر مهابة ووقاراً لقد اصبح الثوب او الرداء أسود اللون هو الزي الرسمي المتعارف عليه لتمييز القضاة عن غيرهم ويعتقد ان هذا التقليد يجد تجذره التاريخي منذ حوالي سبع مائة عام في انجلترا وتحديدا كما يرى المؤرخون في عهد الملك ادوارد الثاني فخلال تلك الحقبة التاريخية، كان الزي موحداً للقضاة وكما هو معروف فان لكل وظيفة او مهنة في انجلترا شكلية مظهرية معينة استطاعت هذه الشكلية ان تنقش في البصر والبصيرة الانجليزية معايير التمايز بل ان المظهر كان مرافقا لذوي المهنة حتى خارج عمله فلم يقتصر ارتداء الثوب أو العباءة في قاعات المحكمة بل كان القاضي يرتدي العباءة في مناسبات عديدة وبخاصة المناسبات الرسمية والزيارات التي كان يقوم بها وبخاصة الى الديوان الملكي. وكان لون ثوب القاضي يأتي على ثلاثة ألوان: البنفسجي خلال فصل الصيف، الأخضر لفصل الشتاء، والقرمزي للمناسبات الخاصة فلكل فصل لونه الذي يتناسب مع ذائقة فنية تشير الى رقي الاختيار ودلالاته النفسية. وفي الغالب يتلقى القضاة الثوب كجزء من منحة الملك. ودخلت التغييرات على اللون ومكان ارتداء الثوب بفعل تطورات المراحل الزمنية حيث يعتقد أن آخر ظهور للثوب أخضر اللون كان في عام 1635م. وكانت التوجيهات الجديد قد اقترحت على القضاة ارتداء ثوب أسود مع الفراء خلال فصل الشتاء وثوب بنفسجي أو قرمزي اللون خلال فصل الصيف. ويعتقد المؤرخون أن الانتقال لارتداء الثوب الأسود قد ترسّخ واصبح تقليداً بعد وفاة الملكة ماري عام 1694م، فيما يُشير آخرون إلى ارتباط اللون الأسود بوفاة الملك تشارلز الثاني عام 1685م كبداية لهذا التقليد. وقد اتخذت التطورات والمبادئ التوجيهية التي أمرت القضاة ارتداء ثوب أسود اللون في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي وهو امر لافت للنظر حيث ارتدى القضاة الإنكليزيون رداءً مكوناً من وشاح أسود اللون وغطاء قرمزي عند الحكم في القضايا الجنائية، أما القضايا المدنية فغالبا ما ارتدوا رداءً أسود اللون من الحرير وهي نقلة مهمة باتساق لون الوشاح القضائي بطبيعة عمل القاضي وبالتأكيد ان ذلك لم يأت من فراغ وانما من نظره تجمع بين طبيعة العمل والرداء المخصص له وتأثير اللون في المشاهد او المتلقي فثقافة المظهر وطبيعة اللون وتأثيره لها حضور كبيرة في الاعراف القضائية الشكلية الانجليزية، يقول عالم النفس اردتشام: ان تأثير اللون في الإنسان بعيد الغور، وقد أجريت تجارب عدة بينت أن اللون يشعر بالبرودة أو الحرارة أو يشعر بالسرور والكآبة بل يؤثر في شخصية الإنسان ونظرته للحياة. وبسبب تأثير اللون في أعماق النفس الإنسانية فقد أصبحت المستشفيات تستدعي الأخصائيين لاقتراح لون الجدران الذي يساعد أكثر في شفاء المرضى وكذلك الملابس ذات الألوان المناسبة وقد بينت التجارب أن اللون الأصفر يبعث النشاط في الجهاز العصبي أما الأرجواني فيدعو إلى الاستقرار واللون الأزرق يشعر الإنسان بالبرودة عكس الأحمر الذي يشعر بالدفء ووصل العلماء إلى أن اللون الذي يبعث السعادة وحب الحياة والبهجة هو اللون الأخضر لذلك أصبح اللون المفضل في غرف العمليات الجراحية وغرف الممرضين والممرضات ولعل السبب الرئيسي في اعتماد اللون الاخضر في كتابة القرارات القضائية هو التنسيق بين الشفاء الجسدي من العلل والامراض والشفاء النفسي في تحقيق العدالة ويضاف الى مميزات اللون الاخضر فهو يريح البصر لأن الساحة البصرية له اصغر من الساحات البصرية لباقي الألوان..كما أن طول موجته وسطي فليست بالطويله كاللون الأحمر ولا بالقصيرة كالأزرق. ومن الطريف ذكر التجربة التي تمت في لندن على جسر (بلاك فرايار) الذي يعرف بجسر الانتحار لأن أغْلَب حوادث الانتحار تتم فوقه حيت تم تغيير لونه الأغبر القاتم إلى اللون الأخضر الجميل مما سبب انخفاض حوادث الانتحار بشكل ملحوظ.. ولم يقتصر ارتداء الثوب القضائي على المساحة الجغرافية للمملكة المتحدة البريطانية فقد دأب القضاة الانجليز على ارتداء الثوب القضائي عند ترأس المحاكمات المدنية والجنائية في المستعمرات الأمريكية، ونقلوا هذا التقليد إلى الأمريكان. وبعد أن نجحت الثورة الأمريكية في الإطاحة بالاستعمار البريطاني وتأسيس حكومة أمريكية، واصل القضاة ارتداء العباءة السوداء والشعر المستعار الأبيض تقليدا للقضاة الإنجليز خلال فترة استعمارهم. واستمر قضاة الولايات المتحدة بارتداء الثوب الأسود في قاعة المحكمة على الرغم من عدم وجود قاعدة تنص على ذلك فقد اعتبر الحفاظ على ارتداء العباءة نوعا من السلطة والهيبة للقاضي. ولم يقتصر ارتداء الثوب الأسود على قضاة إنجلترا وأمريكا فقط، بل أصبح تقليدا عالميا يتبعه العديد من قضاة الدول المختلفة حتى بعض الدول العربية في الشرق الأوسط ونرى بان المساحة الشكلية في العمل القضائي سواء في البنى التحتية للعمل القضائي المتمثلة بدور القضاء والتي لابد وان تكون في مظهر هندسي واحد ينتجه متخصصون بشكل يتلاءم مع طبيعة العمل القضائي مستفيدين من تجربة الدول الاكثر عراقة في العمل القضائي من جانب والشكلية المظهرية للقضاة وحسناً فعل مجلس القضاء الاعلى في تنسيق الثوب القضائي للسادة القضاة واعضاء الادعاء العام وهي من الخطوات المهمة باتجاه تحقيق الشكلية المظهرية القضائية المطلوبة.
أقرأ ايضاً
- جدلية الاختصاص في ابرام الاتفاقيات القضائية
- أثر الزمان في تغير الاحكام القضائية
- المنطق القانوني والقضائي للأحكام القضائية