حجم النص
بقلم:حسن كاظم الفتال الشيخ (مِجْوِد خير الله) هو شيخ قرية متعلم وقور مهذب كيس حكيم ذو هيبة بهي الطلعة حسن الهيئة يحظى بحب واحترام الجميع. هذه الصفات مع دماثة خلقه أدت إلى أن يلتف حوله معظم أهل القرية بمختلف شرائحها. يرحب بكل المقبلين عليه والوافدين إلى مضيفه العامر والمشرعة أبوابه ليل نهار. آثر أن يخصص وقتا كافيا لمجالستهم ومحادثتهم ومجاملتهم. يتوسط الجالسين في مضيفه العامر مبديا تواضعه وتودده دون أن يفضل نفسه على الآخرين أو يتعالى عليهم كما يفعل البعض. بل يفضل ملاطفة الجميع محاولا كسب ودهم مغتنما تواجدهم ليسترق لهم معلومة من هنا ويقتطف خبرا من هنالك فينبئهم به عسى أن يتزودوا بثقافة تسوقهم إلى سواء السبيل وتعينهم على مزاولة حياتهم بشكل سليم. يفاكههم حينا ويشد انتباههم حينا آخر ويغتنم إصغاءهم لخطابه وتوقهم لسماعه واشتياقهم لطريقة سرده المشوقة فيلفت أنظارهم لمسألة معينة بحكمة وكياسة وروية. فتراه مرة يقص عليهم قصصا واقعية أو أحداثا ووقائع تأريخية دارت من قبل. ومرة يروي لهم حكاية اسطورية أو خيالية لعله يفلح في تنوير عقولهم ويخلصها من التحجر. انتابته الغبطة حين ظن أنه قد حقق مراده في رغبته لزوال الجهل عن عقول مريديه والارتقاء بهم إلى أعلى مراتب المعرفة. قاده ذلك الظن إلى أن يتوسع في تدرجه لما يطرح وينتقل إلى مراحل متقدمة فيستبدل أسلوب البساطة والسرد السطحي التقليدي بمرحلة طرح مواضيع أو مسائل قيمة ومطالب راقية ليسمو بجماعته إلى ما يبغي. إنما لم تستقر الغبطة في نفسه طويلا. بل أزالها ابتداء تسلل البعض ومغادرتهم لمجلسه وابتداء تناقص عدد الحضور حتى أوشك أن ينعدم الحضور في مجلسه وهذا مما سبب له ذهولا شديدا وحيرة في نفسه وراحت تتزاحم علامات الإستفهام في مخيلته عن سبب غياب الجميع حتى أسعفه أحد المتابعين للأحداث بإخباره بالحقيقة التي أزالت ذهوله. مضمون الخبر: أن هنالك شيخا برز على حين غرة في موقع آخر من القرية اجتذب كل هذه الجموع . يقيم هذا الشيخ مجلسا كل ليلة يتحدث فيه بطلاقة ولباقة دون تلعثم أو تلكؤ أو تردد. وبسرد جميل وأسلوب مشوق ويطرح كل ما هو ممتع ومسلٍ . بينما راح الشيخ (مجود) يستهلك وقتا طويلا وهو يفكر في البحث عن حل لهذا اللغز المحير أو عن إجابات للتساؤلات التي تزاحمت في مخيلته قرر أن يبادر بزيارة لديوان ذلك الشيخ لعله يجد حلا لهذا اللغز أو يذيب حيرته ومشى يجر قدميه بخطوات مثقلة يقدم قدما ويؤخر أخرى نحو المجلس المنعقد في ديوان الشيخ الآخر. حتى بلغ مناه وراح صوت الشيخ يصك مسامع الشيخ مجود وراح يواصل الإقتراب من المتحدث ليتلقى الخطاب بكل وضوح حتى صار وجها لوجه مع ذلك الشيخ المستغرق بالحديث.فوجد أن الجميع في غاية الإنصات بل التفاعل والذوبان التام مع ذلك الشيخ وهو يروي قصصا ما أنزل الله بها من سلطان. ازداد دهشة وحيرة حين سمع الشيخ وهو يروي حادثة لأولئك الفاغرين الأفواه والمنصتين غاية الإنصات وهو يقول: أيها السادة: ذات يوم خرج أبونا آدم مع النبي موسى على نبينا وآله وعليهما السلام وقررا أن يمرقا على النبي عيسى على نبينا وآله وعليه السلام. فما أن وصلا الدار طرقا الباب فخرجت زوجة النبي عيسى فسألاها عنه فأنكرت وجوده وقالت: إنه خرج من النبي شعيب عليهما السلام قاصدين الحضور لمجلس عزاء أقيم على الإمام الحسين عليه السلام. وما أن انتهى الشيخ من روايته حتى ضج المكان بأصوات الحاضرين مرتفعة بالصلاة على محمد وآل محمد. كاد الجنون يعتري الشيخ (مجود) وبينما يفكر بالانقضاض على هذا الشيخ الكاذب المحتال وإذا بذلك الشيخ يسرع نحو شيخ (مجود) مبتسما يحتضنه ليطفئ نار غيظه. فما كان على شيخنا إلا أن يتوجه لذلك الشيخ بالسؤال عن هذا الاستخفاف والاستهزاء كيف أذاب السنين المتباعدة بين نبي وآخر فانقلب ذلك الشيخ معاتبا لشيخ مجود قائلا: أتظن أنني بهذه السذاجة والجهالة والغباء ؟ ما كانت مخاطبتي لهؤلاء الأغبياء إلا رسالة لشخصك. أتأسف على رحيل هكذا أناس ؟ ممن ينطبق عليهم القول تماما: ينعقون مع كل ناعق. لا تأسفوا على رحيل الأغبياء.