- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
هل تعليمنا اسوأ مما كان عليه في الماضي؟
حجم النص
بقلم:أ.د. محمد الربيعي شاعت في الساحة التربوية في العقود الاخيرة مفاهيم سلبية لم تحظ من الدراسات ما تستحقه من التحليل والتقويم، فاستساغ الكثير من التربويين، ومن عامة الناس تلك المفاهيم وألفوها، ورددوها كلما دار الحديث عنها وعن مسبباتها. واحدى هذه المفاهيم او المقولات هي موضوعة تدني المستوى الدراسي او العلمي او المدرسي للطالب العراقي في يومنا هذا، مقارنة بالماضي والتي اصبحت (كليشة) مغرية ومقبولة بدرجة لا تقاوم بالرغم من عدم وجود براهين كمية او نوعية ولا دراسات مقارنة لإثبات او تفنيد هذه الفرضية. وعادة ما تردد هذه المقولة كاستجابة للأوضاع الاجتماعية والسياسية المتردية فهي قد لا تدخل ضمن المعتقدات الفكرية او السياسية لأصحاب المقولة، لكنهم يرضونه ويقع منهم تأييد عاطفي كتعبير عن رفض الواقع التربوي في المدارس والجامعات. موضوعة تدني مستوى التحصيل الدراسي للطالب العراقي خاطئة تماما لأسباب بيداغوجية أساسها هو ان طرق التدريس القديمة وفلسفة التعليم البالية، وأساليب التدريس لم تتغير، كما لم يتغير ايضا مستوى ذكاء الطالب، منذ بداية المدرسة الحديثة في العراق والى يومنا هذا. الدراسات تؤكد أن معدل الذكاء البشري عند الولادة لم يتغيّر بمرور الزمن، لا بل ان تطورّه بات أسرع في الوقت الراهن، نتيجة وسائل التكنولوجيا التي تساعد في تنمية القدرات. لا زالت قابليات ومعارف ومهارات الطلبة تعتمد بالأساس في تقيمها على مقدار ما تعلمه الطالب مما كان يدّرس والذي يتجلى في نهاية السنة الدراسية بصورة ما حفظه الطالب واجتره في الامتحان. وفيما عدا تقييم مقدار المعلومات التي حفظها ورددها الطلبة، والتي سرعان ما ينسوها بعد نهاية الامتحان لم يعتمد في يوم من الايام نظام التعليم العراقي طرقا بيداغوجية تدريسية وامتحانية من خارج المنظومة التي خلقت الاساليب القديمة والتي لم تعد تتماشى مع متطلبات بناء الانسان من النواحي التربوية والإنسانية التي اساسها بناء مهارات التفكير النقدي، والمنطقي، والابداع والقابلية على البحث والتحليل والادارة، والعمل الجماعي والتنظيم والاتصال الشخصي والمواصلة على التعلم، وعلى غرس القيم والمبادئ الثقافية للانسانية تحقيقاً لأهداف التنمية الفعالة. قد تكون كمية المعلومات المدّرسة للطالب تقلصت بمرور الزمن، ولكن هل يقاس التعلم بمقدار التدريس اي بمقدار المعلومات المدرسية المتوفرة للحفظ فقط؟ هل يوجد من يستطيع تحديد المعلومات المفيدة لتكوين شخصية الطالب المكتسبة من خارج المدرسة اي من بيئة البيت والمجتمع؟ على سبيل المثال، ألا تلعب المعلومات المكتسبة من استعمال اجهزة الحاسوب والهاتف المحمول والالعاب الالكترونية والانترنت دورا مهما في تنمية المهارات الحياتية للطالب؟ الا يعتبر استخدام الاجهزة الالكترونية بكفاءة تعلماً؟ كل ما يمكن قوله ان التلقين كان وما يزال الاسلوب الرئيسي ولربما الوحيد للتعليم المدرسي، فلم يتغير منذ العصور الغابرة وبقى الاسلوب المفضل في نقل المعلومات من المعلم والكتاب الى الطالب. فكما يقول ألفين توفلر (في كتابه تحول السلطة): " أن الأميين في القرن الحادي والعشرين، لن يكونوا أولئك الذين لا يعرفون القراءة، بل هم أولئك الذين لا يعرفون التعلم، ثم نسيان ما تعلموه من جديد". وهذا ما يبدو الاساس في التعليم في يومنا هذا، فالطالب يحفظ لكي يحرز اعلى الدرجات ومن ثم ينسى ما حفظه بعد الانتهاء من الامتحان ليبدأ دورة اخرى من عملية الحفظ الى نهاية ايام المدرسة والجامعة. نحن حاليا في حالة جاهلية في ما يخص إدراكنا لطرق التعليم والتعلم، علوم متوفرة الا اننا في حيرة و عجز في استخدامها لبناء الانسان المعاصر، مدارسنا تنتج "متعلمون جهلة"، لأسباب عديدة تظهر نتائجها في عجزنا عن حل مشاكلنا وفي الهروب من الحاضر ومحاولة الالتصاق بالماضي والتي تتجلى باشكال سوسيو-اجتماعية مرضية مختلفة، منها الطائفية والعشائرية وكثير من العادات والأعراف والتقاليد البالية. استمر التعليم المدرسي بالرغم من كل سلبياته بأساليبه القديمة في بناء اجيال من الحفاظين والمعلوماتيين متجاهلا ان نجاح الانسان في الحياة العملية لا يعود فقط الى مقدار ما استوعبه من معلومات خلال الدراسة وإنما يجب أن يكون نجاحاً في العمل، والحياة الاجتماعية، والعلاقات الإنسانية، والقدرة على التفكير النقدي وحل المشاكل الجديدة. بلا شك ان اساليب التدريس القديمة تعّود الطالب على الاستجابة والخضوع، والى تقبل الخرافة والتقاليد البالية وتشجعه على الغش بأشكاله المختلفة، وتخلق منه انساناً متخلفاً غير واعي وغير ناقد مما يمكن لأي سياسي او "قائد" ان يتحايل عليه باسم الماضي "المجيد" او بغيره، لأنه ببساطة لا يتعلم ان يفكر وينتقد. وهذا ما يؤدى الى جعل الانسان اكثر استعدادا لتقبل القهر السياسي والخضوع للسلطة والى تكريس الاستبداد وتشجيع التطرف. لقد تقبلنا ببطولة صلاح الدين الايوبي في تحريره للقدس من الصليبيين ولم نعرف انه دمر مصر وقتل وسفك الدماء وزهق ارواح بريئة واحرق مكتبة دار الحكمة وهدم معظم الاهرامات. لماذا تقبلنا ما سجلته كتب التاريخ المدرسي؟ ببساطة لأننا لم نتعلم التفكير المستقل ولا التفكير الناقد.. لم نتعلم التفكير بل تعلمنا الحفظ. لم نقرأ غير الكتب المدرسية فقراءة الكتاب المدرسي 50 مرة كان افضل من قراءة 50 كتاب مرة واحدة ولا زالت هذه القاعدة "التربوية" سارية الى يومنا هذا. نُشرت قبل فترة على صفحات الفيسبوك ووسائل التواصل الاجتماعي ورقة امتحانية لدرس الجغرافيا للصف السادس لسنة 1925. اجتمعت اراء كل من اطلع عليها على انها معادلة لأسئلة الدراسة الاعدادية او الجامعية واعتبرت الآراء ان هذه الورقة الامتحانية دليل على رقي الدراسة ايام زمان وعلى تخلفها في يومنا هذا. ماذا تغير في النظام التربوي لكي تجتمع الاراء على مثل هذا الاستنتاج؟ في الواقع لم يتغير شئ كثير في النوعية ولم تتغير درجة ذكاء الطالب العراقي ولم تتغير اساليب التدريس. لربما حصل تغيير في الاهتمام النسبي ببعض المواضيع، ولربما حصل تقليل في كمية الحشو المعلوماتي ولكن هل من اهمية لذلك في عصر ازداد فيه الوعي التكنولوجي بدرجة هائلة؟ اننا نعلم ان الاسئلة هي استذكار لما تضمن الكتاب المدرسي، كما نعرف ان الطالب باكثر احتمال لن يتمكن من الاجابة على سؤال لموضوع لا يتضمنه الكتاب المدرسي فهل من اهمية لحجم المادة الدراسية طالما انها للاستذكار فقط والاجترار في الامتحان ومن ثم النسيان. ماذا استفاد الطالب من مهارات وقابليات في عدا تكديس معلومات؟ هل تضمن تدريس مادة الجغرافيا في الماضي او في يومنا الراهن تحليلا وتوليفا وتركيبا للمعلومات، وهل ساعدت الاساليب التربوية في تحفيز اكتشاف واستنباط المعلومات عند الطالب وشجعته على الفهم والتفكير المستقل والتساؤل والبحث والتجريب والنقد والعمل الجماعي. هل يعني السؤال: "سافر من البصرة الى هلسنكفورس (هلسنكي) برا وارجع اليها بحرا واذكر اهم المدن والموانئ والمضايق التي مررت بها في كلا الطرفين مع بيان وسائط التنقل التي استعملتها في سفرتك"، والذي تبدو الاجابة عليه عسيرة ان لم تكون قد اطلعت على الاجابة مسبقا، وهل يختلف في جوهره عن السؤال: "اذكر المدن والاقضية التي تمر عليها اثناء سفرتك من بغداد الى البصرة عن طريق الكوت وارجع عن طريق الناصرية". السؤالين لا يختلفان في انهما امتحان لقابلية الحفظ والاستذكار فلو لم يكن الطالب قد قرأهما في كتاب مدرسي او لقنها له مدرس الجغرافيا لما تمكن من الاجابة على اي منها سواء كان ذلك في عام 1925 او في يومنا هذا. ان استذكار الكتب المدرسية لا يطور الذكاء او يجعله يتفتح ولا ينمِّي القدرات ولا يغذي الطالب بالمهارات. اننا لم تعد حاجة لنا في عصرنا هذا عصر الثورة الرقمية والانترنت مجرد إستحصال المعلومات وتسجيلها وتسميتها وتعديدها، فالحاسوب اذكى في يومنا هذا من حفاظ المعلومات ولكنه يبقى اضعف قدرة من الاشخاص المتميزين في التحليل والاستقراء والإبداع الذاتي. الفرق الرئيسي بين الماضي والحاضر ان نظام التربية المبني على الحفظ كان مقبولا في الماضي وأصبح مرفوضا في يومنا الحاضر. وفي النهاية لا ارى افضل من تسجيل بعض المفاهيم التربوية البديلة والتي اعتبرها خلاصة الاتجاهات التربوية المعاصرة في التعليم والتعلم: " ما تحفظه ليس باهم مما تفكر به" " التفكير النقدي وظيفة الدماغ فلماذا تهملها" " ترديد المقولات الجاهزة وباء اكتسح مجتمعاتنا فأدى الى اغلاق العقول" " الاجابة الصحيحة ليست أهم من الطريقة التي تم التوصل عبرها إلى الإجابة" " للقضاء على التطرف في عالمنا العربي لابد من دحر عقلية التلقين والحفظ" " اسهل وابسط طريقة في التعليم هي طريقة التلقين والحفظ الا انها تساعد على تبلد الدماغ. التفكير النقدي هو البديل، الا انه يحتاج الى تدريب وعمل شاق" " تتعلم الشعر بالحفظ بينما تتعلم الحكمة بالتفكير"