حجم النص
بقلم: حسن كاظم الفتال ــ الجزء الثالث ــ الإمالة إلى الدليل بعد أن ثبت بالبرهان الملموس وبالأدلة القاطعة إن الصوم رياضة لابد من مزاولتها لترويض البدن والروح والنفس. وأثبتت هذه الرياضة فاعليتها وانعكاس أثرها على ممارسها بشكل واضح وجلي. هذا الأمر جعل الكثير من الداعين إلى توفير السلامة الإجتماعية والأخلاقية للمجتمعات وتأمينها وضمان ديمومتها من خلال العمل على تحسين سلوك الفرد والجماعة. ورغم أن هؤلاء لم ينصاعوا للمفهوم التشريعي للصوم. إنما جذبهم جوهر الحكمة من هذا التشريع وشوقهم المغزى الحقيقي الذي أدى إلى إرضائهم وإعلان قناعتهم للإنتماء إلى جوهر الحكمة هذه. حتى وإن كانوا من قبل لا ينتمون إلى منهاج المدرسة الرمضانية العقائدية ولا يتوافقون مع مبدأ المفهوم التشريعي للصوم وأحكامه، إنما إثبات ما تقدم من منافع الرياضة الروحية التي تقود الرياضي أو المُرَوَّض إلى مرتبة من مراتب الكمال هذا الأمر جعل أولئك يحثون أتباعهم أو مريديهم على ممارسة هذه الرياضة ممارسة فعلية والخروج بنتائج نافعة ومفيدة بعموميتها وشموليتها . لذا نجد اليوم الكثير من الدعوات قد أطلقت وبحسن نية تحث بعض المجتمعات إلى الاقتداء بالذين كتب الله عليهم الصيام واعتماد العمل بتجربة الصوم وجعله وسيلة من وسائل التربية والتقويم ولعل أهم وأبرز أسباب حظهم وتحفيزهم على ذلك الأمر هو ما تنتجه حقيقة صوم الجوارح.تلك الحقيقة التي أخبر عنها منقذ البشرية النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله بقوله: من صام صامت جوارحه وصوم الجوارح يعني صونها من ارتكاب المعاصي والآثام أو اقتراف السئيات إذ أن كل ما يحدث من مآثم ومعاصي وموبقات فهو ما تقترفه الجوارح أي أعضاء الإنسان التي يمارس من خلالها كل تصرفاته بمسيرة حياته ويؤدي من خلالها كل ما يود عمله وهذا ما تبينه الآيات الكريمات التي أثبتت إسناد الفعل البشري إلى الأعضاء بأمر مباشر فيقول عز وجل: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ـ النور / 24 (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) ـ يس / 65 وليس أقرب لهذا التوكيد والتبيان من قول الإمام زين العابدين السجاد عليه السلام الذي يدرجه في رسالته الحقوقية وهو يعرِّف فيها كل الحقوق منها حق الصيام على الفرد والذي يصفه بأنه جنة من النار بقوله عليه السلام: وحق الصوم أن تعلم أنه حجاب ضربه الله على لسانك وسمعك وبصرك وفرجك وبطنك، ليسترك من النار. فرضية حق المدرسة الرمضانية إن حق الصوم المفروض على الفرد الذي بينه الإمام السجاد عليه السلام وشَبَّهَهُ بأنه جنة وحجاب من النار ما هو إلا استعراض لخلاصة منهجية تربوية نفسية روحية دينية تهذب النفوس تتخذ مدرسة روحية تغير أو تُحسِن السلوك المتبع ما قبل الدخول إليها وهذا ما يجعل الصائم أن يخرج من مدرسة الثلاثين يوما لشهر رمضان المبارك تماما بغير ما دخل إليها. وبمقتضى هذه التمامية يثبت الإنسان انتصاره على الذات والهوى والنفس الأمارة بالسوء رافضا المغبونية التي تداهم كيانه سواء بجعله مغلوبا على أمره أو جعل يوميه متساويين لا يختلف أمسه على يومه بلحاظ قول أمير المؤمنين علي عليه السلام: (من اعتدل يوماه فهو مغبون ومن كانت الدنيا همته اشتدت حسرته عند فراقها) وإن تحقق المغبونية باعتدال اليومين لدى الفرد عند مرور شهر رمضان وأداء الصيام والقيام فيه بشكل تقليدي بعيدا عن الاكتساب وإشراك الجوارح بالصوم ذلك أمر لعله يؤدي إلى خلع رداء الورع والانسلاخ الروحي أو المعنوي من التقوى. وحين لم يكن الفرد متقيا أي حذرا من مداهمة الموبقات ومواجهة عواصف الهوى الذي يسوق لاقتراف السيئات ومن ثم إلى الخسران. (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)) ـ الكهف وعند ذاك لا يتساوق ما تصنعه جوارحه مع خاتمة منطوق الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ـ البقرة / 183 وليس الإتقاء الا الحذر من الوقوع في شفا جرف الهلكات وللمطاف خاتمة إن العلماء والعارفين والمحققين والمحدثين والمبلغين المرشدين الداعين الرعية إلى سلوك سبيل الرشاد يؤكدون بل يشددون على مقتضى الالتزام بالحكم الشرعي في قبال ما يقره العقل الجمعي. ويجري التشديد بعد توضيح وبيان أسباب فرض تطبيق الحكم ليكون الهدف من ذلك هو تنظيم حياة الإنسان وبمنهجية مشروطة بإبداء الخلوص والصدق في التطبيق. ولعل أول مدلولات الصدق أو إماراته أن يكون الفرد صادقا متصالحا مع الجهات الرئيسية الثلاث أولا: مع ربه جل وعلا سرا وعلانية. ثانيا: مع نفسه مبديا الصدق والإخلاص ومثبتا ذلك بتطابق القول بالفعل وبصحة العمل. ثالثا: مع الآخرين من بني جنسه. وأن يبرهن في إثبات كل ذلك من خلال تمسكه بتطبيق الحكم الشرعي. والبيانات والمدلولات والإمارات للبرهان والإثبات جمة. والغريب كثيرا ما نفاجأ بتعذر تقديم هذا البرهان لدى الكثير منا. إذ كم من مقدمي النصحية للآخرين أو القائلين بها أو المعلنين عن أمر معين يشابهها وهم ليسوا بفاعليه. فقد تعرض هؤلاء للاختبار فلم يحصدوا إلا الفشل ولم يحسنوا صنعا في تجسيد صورة للدليل والبرهان وإبرازها للواقع ولم يتقنوا فن اندماج القول بالعمل وجعل الأمرين حالة واحدة بالتطبيق العملي وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ يسمع أهل الجمع أين الذين كانوا يعبدون الناس ؟ قوموا خذوا أجوركم ممن عملتم له فإني لا أقبل عملا خالطه شيء من الدنيا وأهلها. روضة الواعظين / الفتال النيسابوري بسم الله الرحمن الرحيم ( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (ـ الحجر/ 92 لعل هذا الذكر الذي يبين عظمة وأهمية وقيمة ما يؤديه الإنسان من عمل حسن يدعونا لأن نميل ميلا تاما للعودة إلى محور التقوى الذي افتتحنا الحديث به والتي ألزمنا الله بها بقوله تبارك وتعالى: (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا) ـ الفتح/26 وذكرنا أمير المؤمنين علي عليه السلام بها ولفت أنظارنا إليها بوصيته العظيمة عند وفاته بقوله عليه السلام: للحسن والحسين عليهما السلام: أوصيكما وجميعَ ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظمِ أمركم وصلاحِ ذاتِ بينكم. إن الوصية مقدمة للحسن والحسين عليهما السلام ومن خلالهما إلينا جميعا ولحاظ ذلك قوله عليه السلام: وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي. وقد جعل التقوى المحطة الأولى والأبرز والأهم للانطلاق لنظم الأمر وثم أداء الإصلاح وجلب الفلاح والعمل على نشره. قال اللّه تعالى) : وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (ـ فصلت / 33 مثلما إن التقوى إمارة من إمارات الفرز والتمييز والفصل بين الصدق وعدمه والدعوة للصلاح فهي ميزان أو مؤشر من أبرز مؤشرات المصداقية وهي السبيل لقبول العمل المتقن والفيصل بين الصلاح وعدمه وقال رب العزة والجلالة: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ) ـ المائدة / 27 من الجميل أن يكون المرء مستجيبا لكل نداء تطلقه الشريعة بمقتضيات أحكامها المفروضة على أن تكون التلبية دليلا واضحا ومباشرا على الطاعة المطلقة لأوامر الشريعة السمحاء التي جاء بها رسول الإنسانية محمد صلى الله عليه وآله وقال تعالى: (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعملْ عملاً صالحاً)ـ الكهف / 110 وقال تعالى: من عمل صالحاً من ذكر وأنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة، ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون). وحين يتعاطى الفرد مع الحكم الشرعي بصيغة الوجوب أي أن يدرك بأن الواجب يحتم عليه التطبيق ليلج طاعة الله جل وعلا وليس جزاء للعمل الصالح أقل من الجنة وقد قال الإمام السجاد عليه السلام: أما إن لأبدانكم ليس لها ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها بغيرها ـ الكافي ج1 / مولى محمد صالح المازندراني وقال تعالى): وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً ) ـ النساء /124 وفي الامتحان يكرم المرء أو يهان. فحين تتأصل التقوى في النفوس وتزداد جذوتها اشتعالا في الذات وتنمو روحيتها وتتحد مع النية الخالصة في العمل الصالح وثم يصار إلى نشره من خلال نظم الأمر يتم الإصلاح وينتشر الصلاح ويستحصل الفلاح شرط أن تكون الغاية من العمل في نظم الأمور هي بناء المجتمع الأفضل بالسعي إلى تنظيم حياة الإنسان بموجب التشريع الإلهي مطابقا للأحكام الشرعية ليكون الفوز والفلج للجميع. ولابد لأي عمل أن يحاط بالحكم الشرعي أو يستند عليه حيث أن أي عمل لا يخلو من الالتزام بالحكم الشرعي إلا وأصبح عملا صالحا مفيدا نافعا. وقال تعالى: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللهِ قِيلاً) ـ النساء / 122 لذا فإن دعاء بعض الليالي في شهر رمضان الكريم اللهم إني أسألك باسمائك خير السماء، التي تنزل بها الشفاء وتكشف بها اللأواء أن تصلي على محمد وآل محمد وأن تنزل علي منك عافية وشفاء وتدفع عني باسمك كل سقم وبلاء وتقبل صومي وتجعلني فيمن صام وقام ورضيت عمله وتجعلني ممن صامت جوارحه وحفظ لسانه وفرجه وترزقني عملا ترضاه وتمن عليَّ بالصمت والسكينة وورعا يحجزني عن معصيتك يا ارحم الراحمين