- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
عصا المعلّم.. هل تجعل من (الحمار) طبيباً كما يقولون ؟!
حجم النص
بقلم:قصي صبحي القيسي لم تكن عصا المعلم الشيء الوحيد الذي يخيفنا نحن أبناء جيل النحس (جيل أواخر سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي)، فثمة الكثير من الأشياء حولنا كانت تخيفنا، صوت صافرات الإنذار - مثلاً - وهي تنذرنا بطائرة إيرانية ستصب الحمم فوق رؤوسنا، قعقعات صاروخ إيراني سقط على أحد المجمعات السكنية وما يرويه الناس عن أشلاء الضحايا التي تطايرت لتسقط فوق سطوح بعض المنازل، برنامج (صور من المعركة) الذي يعرض لنا لقطات لجثث تفسخ بعضها بشكل مرعب، تحذيرات الأب والأم لنا من الخوض في أحاديث تتعدى الخطوط الحمراء (ولعل هذه النقطة التي كنا نشترك فيها مع نظرائنا تلاميذ كوريا الشمالية)..! لكن عصا المعلم (المثيرة للجدل) كانت لها مساحتها من الخصوصية، هل ظلمتنا عصا المعلم أم أنصفتنا فجعلت منّا أطباء ومهندسين وأكاديميين و(عباقرة زماننا) ؟! وهل الضرب الذي تدعو وزارة التربية العراقية اليوم لمنعه كان علاجاً ناجعاً لـ (داء الغباء) حتى أنه يفتح مخ التلميذ فيحوله من حمار إلى البرت آينشتين ؟! في أيامي الاولى بالصف الأول الإبتدائي، لم أكن ضمن المغضوب عليهم الذين يتناولون الوجبة الصباحية على يد المعلمة، أربع ضربات عصا على اليد مع عرض خاص للموهوبين صفعة على الوجه و دفرة، لم أكن منهم لسببين: الأول أنني لم اُحوج نفسي للضرب لأني دخلتُ الأول الإبتدائي وأنا تقريباً أجيد القراءة والكتابة، والسبب الثاني أن والدتي كانت مشرفة تربوية، أي أنها تتمتع بصلاحية (نسف) مديرة مدرستي. لكنني رغم الحصانة التي كنت أتمتع بها، لم أسلم في بعض الأحيان من العقوبات الجماعية، فقد تتهمنا المعلمة جميعاً بأننا من مثيري الشغب وأننا نحن الأطفال الصغار المتواجدون في هذا الصف البائس أسوأ ما أنجبته الأرض، سبحان الله، كيف جمعت الأقدار أسوأ أربعين طفلاً تحت سقف واحد! لكن المعلمة التي تتهادى في مشيها بيننا لتضرب كل يدٍ غضةٍ صغيرة بالعصا كانت تعرف من أنا، فكانت تضربني بطريقة شكلية، لكن ذلك لم يعفها من أن تكون ضمن دائرة من اُكنُّ لهم الكراهية. لم تختلف معلمتي كثيراً عن العريف الذي عاقبنا عقوبة جماعية في مركز تدريب مشاة بغداد الأول، بسبب أحد الحمقى الذي بدر منه تصرف ينافي السلوك العسكري، قال العريف بصوته المدوي (إبركْ)، اتخذنا جميعاً وضع البروك، أي جلوس القرفصاء، في الساحة الترابية، ثم جاءنا الإيعاز الذي لم نكن نتوقعه (عادةً سِرْ)، تخيّلْ كيف تسير وأنت مقرفص على أرض ترابية والبساطيل تثير التراب ليدخل في فمك وأنفك وعينيك! لكن الفارق الوحيد بين الإثنين أن المعلمة كانت تخالف القانون، أما العريف فكان تصرفه قانونياً وصحيحاً مئة بالمئة، بل إنه صنع منّا رجالاً حقيقيين. في الصف الأول الإبتدائي تفاجأتُ بهذه المؤسسة العسكرية التي تُنظمنا في (كراديس) في ساحة المدرسة صباح كل يوم لنردد هتافات لم نكن نفهم منها شيئاً، كنا أحيانا نستمتع بهذا الصراخ الصباحي المسموح للترويح عن أنفسنا، أما في أيام الخميس فكانت هذه الطقوس تزداد جديةً وشراسة، كان يصاحبها رفع العلم وإطلاق النار، كنا نصمّ آذاننا لتفادي الصوت المزعج، كنا أطفالاً صغاراً في السادسة والسابعة من العمر ولم نكن بحاجة الى طقوس عنيفة يتخللها إطلاق نار، ولعل الحال كان أسوأ في الجبهة المعادية (إيران)، فالطفل هناك فضلاً عن هذه الطقوس كان يشاهد جثثاً معلقةً على أعمدة الكهرباء! لم أكن أفهم لماذا تضربنا المعلمة، اليوم استرجعُ في ذاكرتي مشاهد لما فعلتْهُ بنا نحن التلاميذ الصغار، أحد التلاميذ تشقق جلد أصابعه الصغيرة وسال منها الدم عندما ضربتْه المعلمة على قفا يديه، وكانت هذه العقوبة مخصصة للتلاميذ المصنفين على لائحة الإرهاب بالنسبة للمعلمة، كان ذلك الطفل مسالماً وودوداً جداً، أبوه عامل بناء وأظن أن أمه كانت غير متعلمة، ولهذا السبب لم يجد من يعينه على أداء واجباته المدرسية، فحُكم عليه وفقاً للمادة 4 إرهاب. إحدى التلميذات طلبتْ منها المعلمة أن تكتب شيئاً على السبورة، نهضتْ الطفلة المسكينة مذعورة الى ساحة الإعدام وأمسكت بالطبشور بيدٍ مرتجفة من شدة الخوف، لم تعرف ماذا تكتب، نسيت الطفلةُ كل شيء عندما التقتْ عيناها البريئتان بعيني (السعلوّة)، أصيبت المعلمة بالهستيريا، فأمسكتْ بضفائر الطفلة بعنف ورفعتْها في الهواء من شعرها وضربتْ رأسها في السبورة والطفلة تبكي وتصرخ، لن أنسى ذلك المشهد ما حييت، طفلة معلقة من ضفائرها لبضع ثوانٍ في يد المعلمة، لعل هذا المشهد جعل كل تلميذ يؤدي جميع فروضه المدرسية بل وفروض أبناء جيرانهم أيضاً..! واليوم، نسمع من بعض كبار السن مديحاً وثناء على عصا المعلم، يقولون أنها صنعتْ أطباء ومهندسين فطاحل وجهابذة في كل شيء، وأود أن أوجه سؤالي لمن يؤمنون بضرورة ترويض الطفل كما تُروّض الأحصنة: هل تعرض آينشتاين ونيوتن ودافنشي وبيتهوفن وموتسارت لهذا الكم الهائل من الضرب؟! هل عاشوا أجواء مشبعة بالعنف كالأجواء التي عشناها؟! وهل العقاب ينحصر بالضرب فقط؟ أليس ثمة أساليب اخرى لمعاقبة التلميذ المقصر أكثر جدوى من الضرب ولاتُهين كرامته ؟! درس أبي في طفولته في مدرسة الصبيان الأمريكية بلبنان، كان ذلك في أوائل خمسينيات القرن الماضي، حدثني عن أساليب العقاب التي كانت تلك المدرسة تستخدمها، ففي إحدى المرات نظّم أبي تجمعاً طلابياً صغيراً داخل المدرسة للمطالبة بعدم إجبار التلامذة المسلمين على دخول الكنيسة صباح كل يوم، رغم أنه لم يكن متديناً على الإطلاق، فكانت عقوبة المتمردين (الحبس في غرفة الموسيقى)! واليوم، وفي الوقت الذي ينظر فيه الطفل العراقي الى المدرسة على أنها سجن، يعدّ الطفل الألماني الساعات والدقائق منتظراً لحظة وصول الحافلة التي تقله الى المدرسة، ساعاتٌ للدراسة مليئة بالحقائق والمستجدات والتجارب التي تذهل عقله، تليها ساعة للغداء واللعب في صالة كبرى مليئة بالألعاب، ومن ثم العودة الى قاعة الدراسة، هذا في بعض المدارس، وفي مدارس اخرى – بحسب رواية أقربائي هناك – توجد قاعات لنوم القيلولة قبل العودة الى قاعة الدراسة! فهل أطفالهم بشر وأطفالنا بقر؟! وزارة التربية العراقية التي لم تكن جادة في منع العنف المدرسي، لم تكن جادة في أي شيء يتعلق بتطوير المدارس، من حيث المناهج العقيمة والأبنية المتهالكة والدوام المزدوج والدروس الخصوصية والكثير الكثير من الأمور المخزية...! أختم كلامي بهذه الحقيقة المذهلة عن إنجاز علمي تربوي عراقي: بعد أن رضخت وزارة التربية للضغوطات الداخلية والخارجية وألغت كتاب الحاسوب الذي يعلم الطلبة (البرمجة بلغة بيسك المنقرضة)، أنعمت على طلبتنا باستبدال ذلك الكتاب الهيروغليفي عديم المنفعة والذي جثم فوق صدور طلبتنا سنين طويلة، بكتاب جديد يعتمد نظام (ويندوز أكس بي)، لكنها فرحةٌ ما دامتْ، ففي الوقت الذي يدرس طلبتنا كتاب (ويندوز أكس بي) لم يعد هناك حاسوب مبرمج على هذا النظام، فإصدارات الويندوز الجديدة تتابعت بدءً من (الويندوز السابع) وهي ماضية في طريقها إلى ما لانهاية، أما الطالب الذي يعترض على المنهاج المقرر فالعصا موجودة، العصا التي تحيل الحمار طبيباً والبغل مهندساً! قصي صبحي القيسي [email protected]