حجم النص
بقلم :حسين الخشيمي
القرآن كنز إلهي، وخزانة علمية ثمينة. فعن الإمام علي بن الحسين عليه السلام انه قال: "آيات القرآن خزائن العلم، فكلّما فتحت خزانة ينبغي لك أن تنظر فيها".. ومن اراد ان يغنم منها فلا بد له من الاجتهاد في كشفها، ولاسبيل الى ذلك الا بالتدبر والتفكر والنظر في آيات هذا الكتاب العظيم الذي يمثل حديث السماء الينا.. يقول ربنا عزّوجل: "كتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ"(سورة ص/ 29).
ونحن نتدبر في آيات القرآن الكريم، لنلمس آفاق المعرفة الالهية التي يكون لها مذاقها الخاص، حيث لها تأثيرها الفعال في النفس البشرية، وكذلك فان التدبر في الآيات هو امر يجعلنا نتذكر نعم الله علينا، ونتفكر في خلقه وبديع صنعه. وكذلك نعيش اجواء الاخرة والثواب والعقاب.
في (سورة النور) يبتدئ الله تبارك وتعالى، ببيان الهدف من نزول هذه السورة المباركة، وهو (التذكر) فيقوله تعالى: "سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ".
فالتذكر محور الآية الاولى من هذه السورة المباركة، وهو الهدف المرجو منها، فتنزيل هذه السورة وفرضها على الناس، هو ليتذكر الانسان ماجاء فيها من سنن واحكام وحوادث تاريخية، حيث يقول ربنا في صدد بيان ذلك في ختام هذه الآية: (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). (سورة النور/ 1).
بل ان التذكر هو احد الاهداف الاساسية لنزول القرآن الكريم على نبينا الاكرم صلى الله عليه وآله،يقول تبارك وتعالى: "وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ" (سورة الزمر/ 27).
فهل نسي الانسان شيئاً لكي يتذكره؟ ولماذا هذا التركيز من القرآن الكريم على (التذكّر) ؟
وللأجابة عن هذين السؤالين، لابد من معرفة معنى "التذكّر" اولاً، ثم بعد ذلك سيتضح لنا المراد من هذه المفردة، ومدى اهميتها حيث يستخدمها القرآن في اكثر من موضع في ختام الآيات لتكون هدفاً منها.
(الذكر) في اللغة هو "ما جرى على اللسان"، أي المفردات والحوادث التي يستخدمها الانسان باستمرار. وقالوا في بيان معنىقوله تعالى: "واذكروا ما فيه" أي ادْرُسُوا ما فيه*.
إذن؛ نفهم من المعنى اللغوي للكلمة ان "الذكر" و "التذكّر"، هو التدارس واستذكار الاشياء، وعندما يستخدم القرآن الكريم هذه المفردة، فهو يعني التدارس والاستذكار المستمر للآيات القرآنية وللحوادث والقصص المذكورة فيه.
لهذا، فإن تركيز الآيات القرآنية على ان يتذكر الناس لهدف مهم، وهو معرفة السنن، فمن خلالها تذكر، ودراسة الآيات والقصص القرآنية، تنكشف السنن لنستشرف آفاق المستقبل فنستعد لتجنب الاخطاء والوقوع فيها.
ولكن كيف يكون ذلك ؟
ان الله تبارك وتعالى خلق الحياة بسنن ثابتة، وهذه السنن لا يمكن ان تتغير او تتبدل مهما تبدلت الدهور،يقول جلّ وعلا: "سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا". (سورة الفتح/ 32). ووعده سبحانه حق، فهو لا يخلف الوعد، فجعل لهذا الكون نظاماً ثابتاً يسير عليه، فنجد –مثلاً- تعاقب الليل والنهار، فلكل منهما مدة زمنية محددة، فيتعاقبان وفق هذه المدة، وكذلك في ما يرتبط بالقوانين الاخرى الطبيعية، كالجاذبية وغيرها، فلا يمكن لأحد انتهاك هذا القانون ويقفز من شاهق، مدعياً انه سيرتفع الى السماء..! إنما ستجذبه الارض فوراً ويرتطم بها ويتحطم ويكون مصيره الموت المحتوم، إلا من شملته المعجزة في حالات نادرة. أما عملية الطيران في السماء،فتقتضي ان تكون هناك (مصالحة) مع سنة الجاذبية في الارض ، وفق قوانين فيزيائية، لسنا بصدد سردها في هذا المقام.
وهناك سنن اخرى عديدة خلقها الله تعالى، لو عرفها الانسان لعرف كيف يعيش عيشة راضية هانئة، والقرآن الكريم يسلط لنا الضوء على سنن الله في الخلق، وقد جعلها في القرآن واضحة جليّة، ولكن بعد ان نتأمل ونتدبر في آياته، ومن ثم نتذاكر هذه السنن ونعتبر منها، فانتصار الحق على الباطل–مثلاً- سنة من سنن الله، يقول تبارك وتعالى: "لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ" (سورة الانفال/ 8).
إن فرعون الذي كان يمثل جبهة الباطل، اراد ان يطفئ نور الحق الذي كان يمثله موسى عليه السلام، خطط ودبّر، وكاد لموسى عليه السلام المكائد الكثيرة، وقتل من قتل من بني اسرائيل، من اجل ان لا يظهر نور الحق للناس، ولكن الله ابى الا ان يظهر ذلك الحق من بعد ان نصر موسى عليه السلام وقومه على فرعون وجلاوزته، وهذه سنّة من سنن الله، وهذه السنّة ماضية وسائرة حتى يوم القيامة، فخط الحق هو من سيدحر خط الباطل سواء تمثل بنبي مرسل، او قائد رسالي، او انسان عادي يطالب بحق من حقوقه من ظالم آخر، وهذه الايام هي ذات الايام التي خلت من قبل،"إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ" (سورة آل عمران/ 140).
ودائماً (اليوم يشبه البارحة)، باختلاف الظروف و المواقف، لكن السنن تحمل ما حملته للأيام الماضية، ففي كل عصر وزمان هناك من يمثل جبهة الحق، وآخر يمثل جهة الباطل، كذلك الاحكام التي فرضها الله على الامم السابقة، و التي يذكرها القرآن الكريم، هي ذات الاحكام وسارية المفعول، فالزنى محرم منذ خلق الله البشر، وايضاً الكذب والخيانة والظلم وسائر المحرمات الاخرى، والحوادث التاريخية تعيد نفسها اليوم بشكل جديد، وبشخصيات جديدة.
وهذا هو"التذكّر" الذي تتمحور آيات القرآن الكريم حوله، وفي قصصه وامثاله، فبعد ان نعرف سننه نتذاكرها للاعتبار، ويجب علينا أن نعي ذلك لكي نتجنب الاخطاء، ولكي نسير على خطى النصر التي سار عليها رموز الحق السابقون المتمثلون بالانبياء والاوصياء الائمة الاطهار عليهم السلام، فلابد لنا من تذكّر السنن والحوادث من خلال دراستها والتفكّر فيها بشكل واعٍ وجدّي، لان فرصة العمر في هذه الحياة محدودة، ومن السذاجة ان يجرب الانسان في فرصته الوحيدة، وهكذا؛ فإن في (سورة النور) و سائر السور الاخرى، الهدف وهو أن نصل الى الهدف المطلوب منّا وهو (التذكّر).
أقرأ ايضاً
- الحجُّ الأصغرُ .. والزِّيارةُ الكُبرىٰ لِقاصِديِّ المولىٰ الحُسّين "ع"
- جريمة عقوق الوالدين "قول كريم بسيف التجريم"
- سموم "البعث" وبقايا شخوصه