- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
المذهب والنفط والثقل الستراتيجي محددات الصراع السعودي العراقي، قراءة في أفق العلاقات
إشارة عامة
لم تمر العلاقات العراقية السعودية بمرحلة أخطر مما هي عليه الآن، إنها مرحلة آخذة بالتبلور بسبب الثورات المستجدة في المنطقة، والخارطة الجيوستراتيجية الجديدة التي ستخيم على المنطقة لسنوات قادمة والتي تتقاسم النفوذ فيها الستراتيجيات الإقليمية الكبرى: السعودية، الإيرانية، التركية.
عربياً، فإن التغيرات الكبرى التي طالت وستطال الأنظمة السياسية التقليدية فيها فإنها ستصب في المصلحة السعودية بشكل مباشر، فبغياب الثقل الستراتيجي المصري والسوري تحديداً تكون السعودية قد جللت سياستها بامتلاك عناصر التأثير المباشر على المنطقة العربية، من هنا كانت مبادرة السعودية لتوسيع قاعدة مجلس التعاون الخليجي إيذاناً ببدء المرحلة السعودية في قيادة العرب ستراتيجياً مدعومة باقتصاد من العيار الثقيل وتفاهمات نوعية مع أميركا وأوربا وتركيا لرسم الخارطة الجيوسياسية للمنطقة.
ليس للبوصلة السعودية من عداء واضح لأي من ستراتيجيات المنطقة سوى الستراتيجية الإيرانية، وأيضاً خشيتها من انبعاث معادلها الستراتيجي (العراق الضعيف حالياً)، فالستراتيجيتان السعودية والإيرانية تقودان اللعبة العربية حالياً (مع دور تركي متنام)، وتتنازعان النفوذ وتلعبان بذات الأدوات والأجندة شرق أوسطياً.. لذا فمؤشرات تصاعد وتيرة الصراع السعودي الإيراني آخذة بالازدياد وهي مرشحة للتصادم الأمني والعسكري والاقتصادي والمخابراتي أكثر من أي وقت مضى.. وستكون أكثر من ساحة نقطة اصطدام لكلا الستراتيجيتين (العراق ولبنان تحديداً)... إنّ نظام اللعبة في المنطقة قد اختل وستضبط الستراتيجيات الكبرى: السعودية والإيرانية والتركية إيقاع اللعبة الإقليمية مع غياب ثقل العراق الستراتيجي الحاجز بين الستراتيجيات الثلاث.
عراقياً، فإن السياسة السعودية منذ بواكيرها تأثرت وما زالت بثلاث عقد: المذهب، النفط، الثقل الستراتيجي للعراق، وأتصور، أن السياسة السعودية أدركت منذ البدء أن معادلها الإقليمي العراق وليس إيران أو مصر، لاختلاف هويته المذهبية التي ترى فيه السعودية نقيضاً لشرعيتها التي تحكم باسمها، ولموارده الطبيعية واحتياطيه النفطي الهائل الذي ينافس السعودية اقتصادياً، ولكتلته الحضارية والثقافية النوعية، ولموقعه الستراتيجي الرابط بين العالمين العربي والإسلامي.
المسار العام للعلاقات
لا يمكن وصف العلاقات العراقية السعودية بأقل من كونها حذرة متوترة قابلة للتصعيد منذ نشوء الدولتين الحديثتين في بدايات القرن المنصرم وحتى هذا اليوم، لقد افتتحت العلاقات بالغارات التي كانت تشنها المليشيات الوهابية على العراق والتي كانت جزءً من توسيع نفوذ المملكة السعودية على حساب الأراضي العراقية.. استمر ذلك حتى معاهدة 1922 التي تمت بوساطة بريطانية والتي وضعت حداً للتطلعات السعودية تجاه الأراضي العراقية وقد وافق عليها العراق رغم إجحافها البين.
مع استقرار بنية الدولتين دخل الصراع مرحلة جديدة، إذ وجد العراق نفسه في خضم الصراع بين العائلتين الحاكمتين السعودية والهاشمية اللتين تتنازعان الزعامة على شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق (يجب ألا ننسى هنا دعوة ولي العهد العراقي عبد الإله في الخمسينات من القرن المنصرم التي دعا فيها إلى شكل ملكي للقومية العربية كحل لتمزق الأمة العربية.. في إشارة واضحة منه إلى بسط نفوذ العائلة الملكية الهاشمية على حساب نفوذ العائلة السعودية التي تمتلك حساسية كبرى تجاه القول بشرعية العائلة الهاشمية بعرش العرب).
استمر الحذر والتوجس يسودان العلاقات العراقية السعودية حتى دخول العراق العهد الجمهوري 1958، ولم تشهد العلاقات تطوراً ملحوظاً إلا في سبعينيات القرن الماضي من خلال ترسيم حدود المنطقة المحايدة بين السعودية والعراق وتقاسم إيراداتها النفطية.
مع انتصار الثورة في إيران 1979 تحركت السعودية إقليميا باتجاهين: الأول تأسيس مجلس التعاون الخليجي 1981 لتحصين الساحة الخليجية تجاه النفوذ الإيراني، والثاني، دفع العراق لخوض الحرب مع إيران، وبذلك استطاعت السعودية كسب ثلاث نقاط إقليمياً: احتواء الخليج تحت مظلتها الستراتيجية، إلهاء وإضعاف العراق كقوة ستراتيجية، ومحاصرة واحتواء التأثيرات الإيرانية إقليمياً. والملاحظ –عراقياً هنا- أن السعودية في الوقت الذي كانت تساند نظام صدام حسين في حربه ضد إيران بشكل مطلق إلاّ أنها لم تسمح له بالانضمام إلى مجلس التعاون الخليجي، وهي قراءة ستراتيجية لمستقبل العراق الذي يجب ألا يكون منافساً ستراتيجيا للسعودية إقليمياً تحت أي ظرف كان.
مع سقوط نظام صدام حسين 2003، قرأت السعودية وصول الشيعة للحكم في العراق على أنه إخلال بالتوازن السياسي في المنطقة، وأنه توسيع للنفوذ الإيراني إقليمياً، ورسمت سياستها على هذا الأساس. وسواء أعطت بعض الأحزاب العراقية الشيعية المبرر لذلك من خلال علاقاتها المتميزة مع إيران، فإنّ الموقف ذاته لم ينسحب على الأحزاب السنية التي تمتلك علاقات متميزة ونوعية مع السعودية أو تركيا واعتباره توسعاً للنفوذ السعودي أو التركي.. ظلت الحجة السعودية بطائفية النظام الجديد ثابتة لم تتزحزح في نظرتها وسياستها للتحول السياسي في العراق، ولم تبادر لاحتواء تناقضاته وتساعده في إعادة إنتاج نفسه، ولم تقدم على خطوات ايجابية حقيقية كفتح سفارتها في بغداد أو مساندة العراق في المحافل العربية والدولية أو إسقاط ديونها امتثالاً للدورة (126) لوزراء الخارجية العرب في القاهرة، الذي نص في بند العراق على فقرة خاصة بديونه، وهي: (التأكيد على سرعة قيام الدول الأعضاء بإلغاء ديونها المترتبة على العراق تنفيذا للفقرة (15) من قرار قمة الخرطوم رقم (340) بتاريخ 29 / 3 / 2006).
عقدة المذهب والنفط والثقل الستراتيجي
قامت السعودية الحديثة على المزاوجة بين عائلة آل سعود والمذهب الوهابي، واشتغلت على العامل الديني المذهبي كركن أساس في تركيبة المملكة وبقائها ونفوذها، وأنفقت المليارات لتدعيم نفوذها كزعيمة للعالم الإسلامي.
إن المذهب والنفط أهم عاملين لا يقبلان التنافس سعودياً، فهما في طليعة ركائز الحكم والنفوذ، من هنا ساهمت السعودية بإضعاف أغلب مراكز الثقل الديني في العالم السني (الأزهر مثلاً) لحساب المذهب الوهابي واستثمرت النفط كأداة لتسويق المذهب، والمذهب كأداة لتسويق النفوذ والهيمنة الستراتيجية. وقد نشرت مجلة (ميدل ايست مونيتر-MidEast Monitor (عدد يونيو - يوليو 2007 دراسة أكاديمية موثقة ومهمة للسفير الأميركي السابق لدى كوستاريكا (كورتين وينزر)، (يورد (وينزر) على لسان (اليكسي اليكسيف) أثناء جلسة الاستماع أمام لجنة العدل التابعة لمجلس الشيوخ في 26 يونيو 2003م بأن «السعودية أنفقت 87 بليون دولار خلال العقدين الماضيين لنشر الوهابية في العالم»، وأنه يعتقد أن مستوى التمويل قد ارتفع في العامين الماضيين نظرا لارتفاع أسعار النفط. ويجري (وينزر) مقارنة بين هذا المستوى من الإنفاق بما أنفقه الحزب الشيوعي السوفيتي لنشر أيديولوجيته في العالم بين 1921 و1991م حيث لم يتجاوز الـ 7 بليون دولار.
عراقياً، فالسعودية ترى في المذهب الشيعي تحديداً منافساً على مستوى الزعامة والتأثير الستراتيجي، سواء على صعيد بنيتها الداخلية كشعب متنوع مذهبياً، أم على مستوى مساحة زعامتها للعرب والمسلمين، لذا فأحد أوجه المواجهة السعودية مع التحول السياسي في العراق إسقاط شرعيته من خلال توظيف الاختلاف المذهبي لمحاصرته وإجهاضه، أتكلم هنا عن المذهبية السياسية التي غدت سلاحاً إيديولوجيا لرسم الستراتيجيات ومناطق النفوذ.
نفطياً، فالعراق معادل نفطي للسعودية، إذ يبلغ احتياط النفط العراقي حوالي 10.7% من إجمالي الاحتياطي العالمي، الاحتياطي المؤكد نحو 112 مليار برميل، ونسبة 80% من نفط العراق ما تزال غير مؤكدة، ويقدر الاحتياطي غير المؤكد بحدود 360 مليار برميل (أربعة أضعاف الاحتياطي النفطي الأميركي). ويمتاز النفط العراقي بوجود جميع حقوله في اليابسة، لذلك فتكاليف إنتاجه تعد الأقل في العالم إذ تتراوح بين 0.95 و1.9 دولار للبرميل الواحد، مقارنة بكلفة إنتاج البرميل في بحر الشمال التي تصل إلى عشرة دولارات. وفي العراق جميع أنواع النفط من خفيف ومتوسط وثقيل، إضافة إلى خبرات وكوادر نفطية مشهود لها عالمياً.
بروز العراق كقوة نفطية سواء على مستوى الإنتاج أم الصناعات النفطية سيزعزع الهيمنة والنفوذ السعودي على كافة المستويات، على المستوى الداخلي كون الاقتصاد السعودي اقتصاد ريعي، وعلى المستوى الإقليمي كون الزعامة السياسية تقوم على النفوذ المالي المتأتي من إيرادات النفط، وعلى المستوى الدولي من خلال تضرر مكانتها كزعيمة نفطية كبرى قادرة على فرض رؤيتها في العديد من الملفات الدولية.
على مستوى الثقل الستراتيجي، فللعراق ثقل نوعي يرشحه للعب دور ستراتيجي لا يمكن للسعودية منافسته بحال، فعمقه التاريخي الضارب بالقدم، وإرثه الحضاري، ومخزونه الإبداعي الفني والثقافي، وموقعه الجغرافي، وموارده الطبيعية... كلها عوامل قوة تفتقدها السعودية في ميزان الثقل الستراتيجي إقليمياً ودولياً.
إن ثلاثي: المذهب والنفط والثقل الستراتيجي محددات السياسة السعودية تجاه العراق بغض النظر عن طبيعة الدولة ونوع الحكم وفئة الأيديولوجيا الحاكمة في العراق.. إنها محددات تنافس على الوجود والنفوذ والتأثير الستراتيجي التي تقبل المرونة هنا وهناك ولكنها لا تقبل التنازل بالمجمل.
اتجاهات السياسة السعودية تجاه العراق
مارست السعودية سياسة غامضة مشوبة بالتصعيد ضد التحول السياسي في العراق منذ 2003، ودخلت بقوة على الخط السياسي الطائفي والأمني الشائك. لقد سارت السياسة السعودية بخطين متوازيين على الساحة العراقية، الأول محاولة إعادة إنتاج الدولة العراقية التقليدية التي انهارت في 2003 كهدف بعيد المدى، وثانياً الحفاظ على التوافق العرقي الطائفي كحل مؤقت لضمان بقاء نفوذها وتأثيرها المذهبي-السياسي في العراق.
مع التغيرات الجيوسياسية في المنطقة، من المرجح أن تتحرك السعودية باتجاهين، الأول: تدعيم نفوذها في العراق ودفعه باتجاه التصعيد السياسي والأمني لضمان بقاء التجربة العراقية قلقة غير مستقرة على صعيد بنية الدولة. والثاني: تسريع ستراتيجيتها بفك المحور الإيراني-السوري-اللبناني، من خلال إسقاط النظام السياسي في سوريا وتحويلها إلى كتلة سياسية موالية للسعودية لمعادلة الكتلة السياسية العراقية.
إجمالاً، تسعى السعودية لبقاء العراق ضعيفاً مع محاولة إنهاكه لغرض عزله ستراتيجياً من خلال تحويله إلى ساحة لصراعات إقليمية كبرى (على الغرار اللبناني)، أو إعادة إنتاجه من جديد وفق مرتكزات الدولة العراقية التقليدية مع الاحتواء الستراتيجي هذه المرة، أو السعي – كما يقول بعض الستراتيجيين- لتقسيمه (بتفاهمات إقليمية ودولية) إلى كتل كردية وسنية وشيعية، تضمن من خلالها دمجا كونفدراليا تركيا مع إقليم كردستان، وسوريا مع المنطقة الغربية، وإيرانيا مع المناطق الشيعية.. لغرض إنهاء العراق كلياً.
الخيار العراقي تجاه السعودية
يقع العراق حالياً تحت منخفض جيوستراتيجي سعودي إيراني تركي، بسبب بنيته الهشة وانقسامه العرقي الطائفي واختلاف رؤى وإرادات النخب السياسية الحاكمة لإعادة إنتاجه كدولة. ومع بقاء هذا الوضع على ما هو عليه فإنّ أي حديث عن خيار عراقي يحدد السياسة الستراتيجية تجاه هذه الستراتيجيات الثلاث ومخططاتها وأجندتها هو محض خيال.
أعود وأكرر هنا، أن اللحظة التاريخية الحالية تضع الجميع أما اختيار بقاء الدولة العراقية أو انهيارها وابتلاعها من قبل الستراتيجيات الكبرى، وأدنى نظرة ستراتيجية سليمة لمستقبل المنطقة والعالم تفيد بضرورة التأسيس لـ (دولة التوازن الستراتيجي): وهو نموذج الدولة العراقية اللاعبة لدور التوازن الإقليمي الفعال، بما يؤهل العراق ليكون قوة استرتيجية رابعة فاصلة وموازنة للستراتيجيات السعودية والإيرانية والتركية. إنّ التوازن الفعال يعني (دولة عراقية وطنية مدنية قوية سياسياً واقتصادياً وعسكرياً قادرة على حفظ التوازن الإيجابي بين استراتيجيات المنطقة)، وبخلاف ذلك فإن طوفان الانهيارات والكوارث الطائفية والسياسية والاقتصادية سيجرف المنطقة برمتها.
أقرأ ايضاً
- الأهمية العسكرية للبحر الاحمر.. قراءة في البعد الجيوستراتيجي
- الغدير.. بين رأي السياسي وقراءة المخالف
- قراءةٌ في مقال السفيرة الأميركيَّة