لا تكفي الوطنية (Patriotism ) المجردة لاثبات الوشيجة مابين المواطن (Citizen) من جهة ومابين الوطن (Homeland) من جهة اخرى لأن الوطنية التي في ابسط مدلولاتها هي حب الوطن والشعور الحي بالارتباط الباطني نحوه اما الوطن فهو قطعة معينة من الارض يرتبط بها الفرد وتتعلق بها عواطفه تعلقا حميميا وغريزيا لا إراديا وهذا الارتباط في حدوده الدنيا مجرد نزعة رومانسية عائمة لاتكفي لوحدها لاثبات العلاقة مابين طرفي العقد الاجتماعي(The social contract) المتمثلينِ بالدولة (State) من جهة وبالمواطن من جهة اخرى .
فالوطنية ليست فقط حباً جارفاً أو تعاطفاً طبيعياً نحو الوطن او ( الأمة) او استعداداً فطرياً في التعلق به والدفاع عنه وبذل الغالي والرخيص في سبيله وانما هي ثقافة ذات نظم وقواعد في الدرجة الاساس وفلسفة عقلانية متبناة وسلوك ذو معطيات مادية ملموسة وانتماء حقيقي ورؤى وقناعات متجذرة تنمو في ظل علاقة تعاقدية صحيحة تحتضنها تجربة سياسية ناضجة قائمة على مبادئ الحرية والتعددية وحقوق الانسان والمساواة .. وليس من شك في مقاربات الوطنية العراقية كما يحاول البعض ان يشكك بها سيما بعد التغيير النيساني والزلزال الذي احدثه هذا التغيير على الاصعدة كافة، وكما هو معروف ان بلاد الرافدين (Mesopotamia) التي شهدت بزوغ اولى الحضارات العالمية كانت صاحبة منظومة الاولويات المعرفية والحضارية والتقانية والادبية والفلسفية البكر التي رسخت بوادر نشوء وارتقاء الحضارة على الصعيد الانساني كله وبفضل هذه الاولوليات العراقية دخل العالم التاريخ من بوابة العراق قبل الميلاد بآلاف السنين وكان من الطبيعي ان يشهد العراق الخطوات الاولى لنشوء النزعة الوطنية بطابعها الحضاري والمديني المتحضر اذ لولا هذه النزعة لما قامت اساسا أية مرتكزات وبنى تحتية وفوقية لأية حضارة ما يدل على ان تاريخ الوطنية العراقية غائر في اعماق التاريخ ولم تتزعزع مقوماته او يتخلخل نسيجه او تتلاشى عناصره رغم عهود القهر والكبت والاستبداد والاستلاب ومصادرة الحقوق الوطنية والانسانية وتهميش الاكثرية والغاء دور الاقليات والمكونات في اخذ دورها الطبيعي ضمن الخارطة الديمغرافية والسياسية في البلد ورغم هشاشة المواطنة (Citizenship) والتعايش الحذر الا ان الخطوط العامة العريضة للمشهد العراقي اشارت بوضوح ومازالت تشير الى ان الفسيفساء العراقية الجميلة مازالت متناسقة الالوان متواسقة التراكيب ومتناغمة العناصر ومتعايشة سلميا رغم التجاذبات التي تعتري هذا المشهد بين الحين والاخر من قومية ومذهبية وطوائفية وسياسية وحزبوية وغيرها ورغم تعرض العراق وجودا وشعبا ومرتكزات حضارية وشواخص ابستمولوجية الى منحدرات خطرة قلما ينجو منها احد ، فإن الوطنية العراقية وبعد تبيان ما تسفر عنه نتائج المنعطفات الحادة والمصيرية للعقود الثمانية التي شكلت بعهديها الملكي والجمهوري ملامح ما يسمى بالدولة العراقية الحديثة ، مازالت بحاجة ماسة الى تفعيل ديناميكيات الوعي الديمقراطي النخبوي والشعبوي وترميم آليات التعاقد الاجتماعي التي تعرضت الى ابشع مظاهر التفكيك والتهشيم والتشظي من قبل الديكتاتوريات الشمولية المتعاقبة ، ما بين المواطن الذي عاش في ظروف قهرية طيلة مراحل التأسيس الدولتي الحديث ( 1921 / 2003) التي مرت بها الامة العراقية وما شاب تلك المراحل من انعطافات وانزلاقات كوارثية ومحن عصيبة لم تشهدها المنظومة الجيوسياسية الشرق اوسطية ، وما بين الدولة العراقية المعاصرة التي تأسست على انقاض (شبه الدولة) التي تأسست تأسيسا غرائبيا في العقد الثاني من القرن العشرين المنصرم التي حملت جينات انهيارها من لحظة تشكيلها الذي كان بمواصفات غرائبية هي الاخرى لم يشهد الفضاء الشرق الاوسطي ودول الجوار العراقي مثيلا لها ولحد سقوطها غير المأسوف عليه ويفترض بالدولة التي تشكلت بعد الاطاحة بالديكتاتورية الفاشستية (التأسيس الديمقراطي الحقيقي للدولة العراقية) ان تكون دولة مدنية بالدرجة الاساس معتمدة ً الآليات الديمقراطية والليبرالية في ادارة الدولة والحكومة والمجتمع وتكون ايضا دولة المواطن الذي يتمتع بجميع حقوقه المكفولة بالدستور الذي يصوت عليه الشعب تصويتاً حراً وشفافاً ليمارس دوره الحقيقي في المواطنة التي هي عضوية الفرد التامة والمسؤولة في الدولة ويترتب على ذلك مجموعة الحقوق والواجبات المتبادلة فتتجلى ـ كتحصيل حاصل للآليات الصحيحة للعقد الاجتماعي المبرم مابين الدولة الديمقراطية والمواطن المعني بهذه الديمقراطية ـ الوطنية الحقة والصادقة تجاه الدولة والمجتمع اذ لا يمكن نشوء مواطنة متكاملة وفاعلة ومتجذرة في ظل \"حكومات\" تتشكل او تُشكل عنوة او قسرا خارج السياقات الديمقراطية وبعيدا عن خيارات الشعب وتطلعاته ، كما لا يتعمق الشعور بالوطنية في ظل الاستلاب والاستبداد والقهر وتفريغ او تسطيح ذلك الشعور بالممارسات القمعية والبوليسية وخنق الحريات، ولايمكن تكوين مجتمع مدني في ظل انحسار حقوق الانسان والعيش في ظل كرامة انسانية مهدورة ووطنية مسحوقة كما لا يمكن تفعيل مبادئ العقد الاجتماعي في ظل التشرذم الديموغرافي والاندثار الانساني والعيش تحت مستوى الفقر الذي يؤشر دائما الى اللاعدالة المزمنة في توزيع الثروات .
لقد تجلت الوطنية العراقية بأبهى صورها في الممارسات الديمقراطية المتجسدة في الانتخابات البرلمانية إذ من النادر ان يمارس أي شعب عاش تحت هامش الديمقراطية ولا تحتفظ ذاكرته الجمعية بأية ممارسة ديمقراطية حقيقية .. يمارس حقه بشكل متحضر مايدل على مستوى هذا الشعب وحيويته الحضارية وتوقه الى بناء وطن يحتضن دولة عصرية وحكومة منتخبة بشفافية ونزاهة ومجتمعا مدنياً متحضراً ومواطناً محترماً ومصاناً ومرفهاً وهو ماجعل المجتمع الدولي لايشيد فقط بنجاح الممارسات والآليات المهنية التي اعتمدت في عملية الانتخابات بل بالوعي الديناميكي الذي يتمتع به الشعب العراقي وهو يمارس حقه التاريخي الذي حرم منه لعقود طوال وهو يمارس التداول السلمي للسلطة وتمظهرت الروح الوطنية لدى الشعب العراقي كذلك في رفضه جميع التدخلات الخارجية والاقليمية في شؤونه الخاصة حتى مع وجود بعض \"الوشائج\" القومية والمذهبية مع بعض الاطراف والقوى الاقليمية، يضاف الى ذلك كله تلاحم جميع فئات ومكونات هذا الشعب في اسقاط جميع المراهنات على تفتيته عبر زرع النعرة الطائفية والنبرة القومية الشوفينية فضلا عن تلاحمه الاسطوري في مقارعة الارهاب بكل اشكاله وانماطه واجندته.
إعلامي وكاتب عراقي [email protected]
أقرأ ايضاً
- التعدد السكاني أزمة السياسة العراقية القادمة
- القتل الرحيم للشركات النفطية الوطنية
- اهمية ربط خطوط سكك الحديد العراقية مع دول المنطقة