المكان بالمكين هو عنوان عريض لواقع مريض قد لا يبدو جادا في تحققه، حيث تتعارض الرؤى وتتضارب المصالح، ولكن بالقطع ما لا يبدو جادا عند ثلة هو قائم عند ثلة أخرى، بخاصة وان كل إنسان ينظر إلى الأمر أو الحدث من الصخرة التي يقف عليها، فربما جاءت الرؤية سليمة منطلقة من صفاء النفس وصفاء المحيط وعلو الموقف، فتبدو الأمور شاخصة بكل تفاصيلها ودقائقها.
ومن الواقع المرير أن أخذ المنجّم مكان المحلل السياسي، على أن المنجّم والفوّال في غيبياته يقترب كثيرا من المحلل والمراقب السياسي في تنظيراته، وهنا يزدحم المكان بالمكين ويقترب المحلل السياسي في رؤيته من المنجّم وبلورته، والمنجم الحاذق في واقعه محلل سياسي وليس بالضرورة أن يكون حاذقا أيضا، ولذلك دأب المنجمون في السنوات الأخيرة على التنظير وقراءة المستقبل السياسي لهذا الرئيس وذاك النظام وربما ساوموه!، فليس الأمر من الرجم بالغيب وإنما من القراءة السياسية للأوضاع.
فيما مضى كان المنجمون يقرأون طالع الإنسان العاطفي والمالي، فيصطادون المنكسرة قلوبهم أو الفارغة جيوبهم الذين يبحثون عن المخلّص فيوردون غير المورد السليم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، واليوم راحوا يقرأون الطالع السياسي ويبنون عليه تنجيمهم يستحضرون أرواح الساسة والسياسة ويستنطقونها، مما يوحي أن المنجم إنما هو يقرأ السياسة من بلورة الواقع لا بلورة الخيال التي يسلب بأضوائها الخلابة عيون الآخرين فتزيغ عندهم الرؤية ويتشبثون بكل حشيشة يقدمها لهم ولو من وراء شاشة، أو من خلف سماعة الهاتف، فكم من رؤية سياسية واضحة وقراءة سليمة قدمها المحلل والمراقب السياسي حول حدث معين فجاءت سلسلة الحوادث تترى كما قرأها، فهل كان المراقب السياسي فيما يقدمه يضرب بالرمل أو يراقب حركة النجوم أو يستصدر الدستور من الأسياد ولو بسلب جيوب العباد!
بالطبع ليس الأمر كذلك، وإنما هو من إعمال العقل، والربط المحكم بين دقائق الأمور التي قد تبدو غير مترابطة أو استحالة تلاقيها، فالمراقب الناجح هو الذي يجد مندوحة من الوصل بين ما قد تبدو من شأنها الفصل، ويعتبر من تجارب الأيام وعوائدها وملاحقة الحوادث وتداعياتها، وحصيلة السنين عجافها وسمانها توفر للمراقب القدرة على حلّ الألغاز، وفك ما تشابك من خيوط القضية والوصول إلى رأس (الشليلة) وفتح عقد بكرة الخيط، بما يجعله يقرأ الحدث وكأنه أمام كتاب مفتوح، ولا يكتفي بقراءة النصوص وإنما الضرب بودع التحليل على ما خفي بين السطور، فيخرج برؤية صائبة للمستقبل، بل ربما أصاب شخوص القضية بالاستغراب لما وقف عليه المحلل فيظنون أن هدهد سليمان عاد من جديد يوصل إليه أنباءهم وما يدور في كواليسهم وعلى الطاولة وأسفلها، وما يجري من ضرب تحت الحزام وفوقه، فليس في الأمر من هدهد ولا عفريت من الإنس أو الجن ولا مصباح علاء الدين يدعكه أنى شاء ومتى شاء ولا خاتم سليمان (ع) ولا عصا موسى (ع)، وإنما لقدرة المحلل على التشوّف من منظار الفطنة والإطلالة من عدسة المتابعة، ومثل هذه الأدوات لا يملكها كل إنسان، ولذلك احتاج الناجحون إلى مستشارين، ويعظم الأمر لدى القادة السياسيين، فاحتياج الزعيم الى المستشارين وبخاصة المستشار السياسي أكثر منه إحتياجه لأي مستشار آخر في حقل آخر من حقول الحياة، لان المستشار والمنظر والمراقب السياسي هو في واقعة بوصلة السياسة التي توجه صوب كعبتها كل الأمور، فلا غنى عنه، والحاجة إليه كالحاجة إلى الماء والهواء والغذاء، لان السياسة من طبيعتها الحركة الدؤوبة وشخوصها يتقلبون بين أمواجها كتقلب الزورق بين يدي أمواج البحر، فلا تصرفها إلى جزيرة سندباد ولا تحطها على ساحل كولومبوس، وعلى (ناخوذها) و(ربّانها) أن يسير بها ومن فيها إلى أن يأذن الله لغيره، لأن الحياة دول ولو دامت لغيرك ما وصلت إليك، والعبرة في خواتم الأمور.
ولا غنى للناجح عن الاستشارة ولا المشير في الأمور الصغيرة، فكيف بمن يمسك بأزمَّة أمور الأمة وبمقاليدها من دماء وأموال وأعراض ووطن؟، فإنه أحوج إلى الإستشارة وأحوج إلى المستشارين، ولا يعدم المستشير الظفر، إذ \"لا مظاهرة أوثق من المشاورة\" كما يقول الإمام علي بن أبي طالب (ع)، والأمة أحوج إلى هذه المصاهرة النسبية بين المشير والمستشير التي تنتج في كثير الأحيان سببية النجاح، تغني الراعي عن سلبيات الاستبداد، وتحفظ للأمة الرباعي المقدس، وبالذات حفظ الوطن من الضياع وصون هيبته واستقلاله، هذا الوطن الذي حبه من الإيمان والموت دونه شهادة وحسنى، وإذا روعي الوطن روعيت حرمة الثلاث فصار المربع المقدس (دواء) للنفوس منه دال الدماء وواو الوطن وألف الأموال والأعراض، ومن دون الوطن وهيبته واستقلاله انفصمت عرى المقدسات الثلاثة وصرن (داء)، فهذه المقدسات تتكامل بكلها لا منفردة، فإذا اجتمعت الأضلاع تحقق الدواء لكل معضل أو مشكل، وإذا انفرط عقد الوطن تباعدت بقية الأضلاع وصارت نهبة للضياع، والحاكم الناجح هو الذي يحفظ المربع بأضلاعه فيصون الوطن وأهله، ولا يفرط بمقدس على حساب آخر، ويبعد عنه مَن جنح عن الصواب وجنح إلى الخراب، فالشهامة كل الشهامة في حفظ المربع المقدس بأضلاعه المقدسة.
ومن الشهامة أن ينصح المستشار في استشارته، ومن الشهامة أن يختار الزعيم مستشاريه من بين الخلص فيتخذهم بطانة خير لصالح الأمة، ينظر بعيونهم ويعمل بتفكيرهم ويضرب على الباطل بأيديهم ويأخذ للحق بأكفهم، لأن من الحكمة معرفة أن \"جهل المشير هلاك المستشير\" كما يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع).
ولكن في الوقت نفسه من الخطل أن يرى كل إنسان الصلاح في نفسه والخراب في غيره، فيعمل ما أمكنته الحيلة على ضرب الآخر وإن كان صالحا، أو يشرئب برقبته إلى مواقع ليس لها بأهل، فالسليم في المكان السليم، والمرء مرحوم ما عرف قدر نفسه، ولا يصح إلا الصحيح، وإن حاول البعض لوي ذراع الحقائق وركوب موجة الحقائب السائبة بين مطارات هذا الحزب وذاك التيار تطير هنا وهناك بلا رقيب أو حسيب دون أن تصل إلى عنوانها الحقيقي، كما حصل في عراق ما بعد عام 2003م، حتى صارت الحقيبة الوزارية أو المنصب الحكومي حلم من ليس له من ألف باء السياسة باع، ومن ليس له من معترك الصراع حظ ونصيب، يرمي بسهمه علَّه يصيب كما أصاب بعض الأميين في زمن الحوسمة السياسية، فزادوا البلد خرابا فوق خراب ولم يتركوا لقوس الإصلاح من منزع، فكادوا بجهلهم أن يجعلوا العراق أيدي سبأ، ويضعونه في مهب الريح تذروه الرياح، لولا أن رحم الله هذه الأمة وأنقذ زورقها من (سونامي) الحرب الأهلية والضياع في بحر الإقتتال الداخلي الذي كان يراد له أن يكون عكازة لتدخل عسكري خارجي بديلا عن القوات القادمة من وراء البحار والمحيطات، تعيد للعراق تجربة لبنان المرّة!
وهذا الواقع الذي مر به العراق وبدأ ينحسر كلما تعززت آليات الحرية من خلال الانتخابات يذكرني بنكتة سياسية أو رسم ساخر (كاريكاتير) ظهر في دولة هجينة غير عربية كانت قد خرجت للتو من انتخابات نيابية ورئاسية، حيث يشير الرسم إلى غلام لم يبلغ الحلم متعلق بأذيال معطف أبيه الطويل يجره إليه ليزيده انتباها، واليد الاخرى تشير الى كرسي الحكم، فيلتفت إليه الأب مشدوها فيسأله عما يريد، فيرد عليه الصغير: أبي أريد أن أصبح وزيرا. ضحك الأب ورد عليه: يا بُني تشكلت الحكومة ولم يعد هناك فراغ وزاري وانتهت لعبة الكراسي، فردّ عليه الصبي: ولكني أريد أن أصبح وزيرا، فالتفت إليه الأب بضحكة صفراء غير حانية، وقال له: إذا كان ولابد! إذن يا بني ما عليك إلا أن تذهب إلى العراق وتقف بالدور وجرب حظك هناك، فما أسرع أن تصبح وزيرا، فالقوم كلّهم وزراء!
جاء الرسم أو النكتة من باب السخرية على التغييرات الحكومية والوزارية التي كانت تحصل في العهد الملكي وبصورة سريعة وارتجالية بين ليلة وضحاها وأكثرها عبر الهاتف، وكأن الإدارة الحاكمة في العهد الملكي (تجرب الحجامة برؤوس اليتامى) كما يقول المثل، وأنها تضع فوق رأس كل مواطن راعيا عملاً بالمثل المصري غير المنصف (طربيزة ورقاصة لكل مواطن)! على أن النظام الملكي من حيث المقارنة بناءا على مفردات الديمقراطية من تعددية سياسية وحزبية هو أفضل بكثير من العهد الجمهوري الذي تلاه، فالأول أشرك الأحزاب والبيوتات النافذة في إدارة الحكم وظفر بالنصب الأعلى والثاني احتكر الحكم والسياسة والعمل الحزبي وحرم البقية من النصيب الأدنى، فجاءت العملية السياسية ممسوخة وهشة لا تنسجم مع أي ديمقراطية عرفتها الإنسانية، وهذا أمر مسلّم به وخلاصة نافذة بدلالة أن الحرية على علاتها خير من الاستبداد، والشر القليل لا يحجب الخير الكثير، وكثير السوء مدعاة لسوء أكثر.
وكأني بهذه النكتة السياسية أو الرسم الساخر الذي مضى عليه نصف قرب يعود من جديد إلى العراق الجديد، حيث استسهل الكثير العمل السياسي والعمل الحزبي، فكل يريد أن يصبح زعيما أو وزيرا أو نائبا أو واليا أو مديرا عاما بدرجة وظيفية أو خاصة، حتى ولو جاءت الوظيفة بشهادة مضروبة صادرة من سوق المريدي (بغداد) أو كوجه مروي (طهران) أو گذرخان (قم) أو الحجيرة (دمشق) أو الهاشمية (عمّان) أو إجور رود (لندن)، وغيرها من الأسواق المستحدثة بعد عام 2003م.
قد لا يلام مثل هؤلاء فعلهم وقفزاتهم على أصحاب الكفاءة وحملة الشهادة وصنّاع السياسة، وبخاصة وهم يرون البعض قد زاد من لفات العمة وسطّر الدرجات العلمية وأطال اللحى وقصّر الثوب في فترة زمنية قياسية، فكما أصبحت الدرجات العلمية أوراقا تباع وتشترى في سوق النخاسة الأكاديمية، صار إعلان الأعلمية وإمارة الأمة الإسلامية أسهل من سلق البيض! وأسهل منه إعلان الإجتهاد، وكاد الوطن يضيع بين حانة ومانة وتحلّق لحانا لولا بقية صالحة من مرجعية رشيدة وعلماء راشدين ومثقفين واعين وساسة مخلصين يجيبون صخر الوطن بأيدٍ مجلتها طاحونة الحياة.
أقرأ ايضاً
- حجب التلغرام في العراق: حماية للأمن القومي أم حماية للسلطة فقط؟
- التغير المناخي قضية أمن قومي و بيئي
- دعاة المحاصصات القومية والطائفية يطالبون باستحقاقات في الكابينة الوزارية الجديدة