لتحديد قيمة الثقافة الجديدة في المجتمع , يتطلب الأمر بحثا مستفيضا ودراسة منهجية وفقا للأصول العلمية المتعارف عليها في البحث العلمي لدراسة أي ظاهرة. وعندما تتخلص الأقلام من قيود الرقابة وتتمتع بحرية التعبير وبناء التجربة الإبداعية ذات الأغصان المتنوعة والأثمار اليانعة , فأن الاقتراب يصبح معقدا ولا يمكن تبسيطه وتسطيحه لكي يكون مجرد رأي . خصوصا وأن الأقلام العراقية أخذت تكتب في جميع الموضوعات بغزارة كبيرة تتفوق على الأقلام العربية الأخرى وتهيمن على صفحات المواقع الإليكترونية والصحف المكتوبة, مما يدعو إلى الفخر والإعجاب , ويوحي بأن المستقبل سيكون بخير , وأن الأجيال القادمة ستمتلك مهارات التفاعل الحضاري المقتدر على عكس الأجيال التي سبقتها.
لكننا أخذنا نقرأ بعض المقالات التي تتصدى للثقافة العراقية المعاصرة وتراها بمنظار متأخر فتحط من قيمتها ودورها في الحياة. وتجتهد بكتابة ما يناهض هذه الثورة الثقافية , التي تعيش مخاضها الصعب والذي حتما سيؤدي إلى ولادات كبيرة متناسبة وحجم المعاناة وقوتها .
وهذه الكتابات تثير بعض الملاحظات التي يمكن إجمالها بالتالي:
أولا: المزاج السلبي
كتابات تقترب من الواقع الثقافي بسلبية متفاقمة ولا تريد أن ترى أي عنصر إيجابي فيه , وتتهمه بالعديد من التهم التي لا تستند إلى بيانات صحيحة أو معطيات واضحة يمكن الاعتماد عليها والنظر فيها.
ثانيا: إغفال عناصر الزمن
ويبدو واضحا فيها غياب التواصل الحي مع الزمن الذي نعيشه , وإنما هي منطلقة من قواعد وأصول بعيدة قد داستها سنابك الأيام , وأوجدت معايير ووسائل جديدة متفوقة عليها وفاعلة في مسيرة الحياة المعاصرة.
ثالثا: التنظير
من طبعنا السلبي جميعا أن نستسهل التنظير وندعي ما ندعي وكأن ما نقوله هو الصحيح وغيره خطيئة وليس خطأً فحسب. والميل إلى التنظير السهل من مميزات العقول المتأخر عن عصرها , والمتفاعلة مع موضوعاتها بعيدا عن أضواء الحقيقة والمعرفة وثورة المعلومات الفوارة في أرجاء الأرض.
رابعا: التوصيف
كتابات تميل إلى إطلاق الأوصاف والمسميات بلا مسوغات كافية , وهذا نهج بالي مضينا عليه ردحا طويلا من الزمن , فشكّل نظام التفكير المتأخر الذي أوصلنا إلى أمهات المآسي والكوارث الحضارية التي نئن منها ونستصرخ السماء.
خامسا: الفوقية
أصحاب هذه الكتابات ينظرون لغيرهم من فوق فيرون كل ما يقرؤونه صغيرا ويتجاهلون حجمهم , وينسون أن مَن يرى الآخرين صغارا , إنما يرونه أصغر لأنه بعيد عنهم. والقراءات الفوقية لا تنفع الثقافة ولا تأتي بشيء يغنيها ويساهم في حركتها إلى الأمام, وإنما هي قراءات ذات آثار سلبية على كاتبها والموضوع الذي يتناوله.
سادسا: الإزدرائية
وهي تنتقص من كتابات الآخرين وفيها كل النقصان وعدم القدرة على الإتيان بمنهج أو منطق مفيد للمجتمع . ولا يعرف القارئ على أي أسباب وبراهين تستند في تصديها للكتابات العراقية , التي تعبر عن حقيقة المعاناة القائمة بأسلوبها المتفق والحالة التي تتناولها.
سابعا: الطرح الضعيف
أي الذي لا يرتكز على سببية مقنعة ومنطق واضح , بقدر ما يعبر عن رأي مجرد عن مفردات الإثبات والتفسير والتقدير. وعندما لا يكون الطرح قويا والتساؤل واقعيا وضروريا تفقد الكتابة غايتها , وتضيع في خضم اضطراب التعبير.
ثامنا: الانفعالية
ويظهر مداد الانفعال واضحا فيها ومؤثرا في سطورها وفقراتها, مما يجردها من قيمتها , ويحولها إلى تعبيرات غاضبة ذات مردود ضار وآني لا يخدم أحدا. والانفعالية سمة تطغى على الإبداع عند المجتمعات المتأخرة وتتسيد على منهج التعبير في القول والكتابة والخطاب بصورة عامة.
تاسعا: اللاواقعية
هل أن ما نقرأه مكتوبا بمداد العدوان يمت إلى واقع الحياة التي نعاصرها بصلة ذات قيمة؟ هذا السؤال لا تعرفه وتحسب أنها عندما تكتب تكون قد توصلت إلى ما تراه ضروريا ولازما لصناعة شيء ما في رؤاها , ولكنه ليس في واقعنا وليس من الموضوعات التي تصنع تحديا علينا أن نواجهه مثلما تفعل الشعوب الأخرى . بهذه اللاواقعية تتحقق حالة الهروب من المواجهة الخلاقة مع الواقع والتي أدمنا عليها على مدى العقود.
عاشرا: الفوضوية
عندما تفقد الكتابة خيوط ترابطها وحبل منطقها وبيت قصيدها , تكون فوضوية ولا تأخذنا إلى نهاية ذات معنى. ومن هنا فأن هذه الكتابات وبتفاعل العناصر المتعددة فيها تكون معبرة عن فوضى الرؤى والأفكار في عالم كاتبها , فتنعكس على الورق وكأنها مرآة لما فيه وليس لما حوله من الحالات والتفاعلات الإبداعية.
حادي عشر: العقم
لا تأتي بحل للظاهرة التي تنتقدها ولا تأخذنا إلى آفاق أخرى تحقق مزاعم الكاتب وتصوراته , وإنما تميل إلى الاستنقاع في الموضوع المطروح , وتحويله إلى مأساة دائمة بلا منفذ مريح ومفيد, وفيها طاقات يائسة وميل إلى السوداوية والكآبة.
ثاني عشر: الانتقامية
وكأنها كتابات تريد الانتقام لنفسها من الآخرين , ولا ترى بعين العقل والواقع وروافده المتجددة والمعقدة. والكتابة بمداد الانتقام تحقق أكبر الأضرار في أي مجتمع , وتدفع إلى دائرة مفرغة من الويلات والتشوهات الفكرية والعاطفية.
ثالث عشر: الإحتكارية
كتابها يحتكرون الثقافة لأنفسهم ويحسبونها لا ثقافة عندما تكون في غيرهم. وهذا مأزق ثقافي عرفناه في القرن العشرين ولا زالت ظلاله تتساقط على القرن الحادي والعشرين , الذي تفجرت فيه إبداعات العقول وتسابقت حتى طغت على جميع أرجاء المعمورة. فما عاد هناك مكان لاحتكار الثقافة في زمن الثورة المعرفية الهائلة والمتجددة على مدى اللحظات.
رابع عشر : النخبوية
وهي لا يمكنها أن تستوعب بأن الثقافة أصبحت ثقافة شعبية أو جماهيرية وما عاد هناك نخب ثقافية , تحيط نفسها بأسوار وتدعي بأنها منبع الثقافة ومصدرها. فقد ذهب هذا الزمن وفرض على الحياة واقعا جديدا , تتحطم فيه النخب وتتحقق ثقافة الجميع وتتعدد مصادرها ووسائل التعبير عنها.
ويبدو أن أصحاب هذه الكتابات عليهم أن يراجعوا مناهج تفكيرهم , وأن يبنوا منطقا معاصرا ومتفقا مع حالة التغيير المتواصلة في الحياة الجديدة , والتي لا يمكنها أن تقبل بمنطق كان يا مكان , وبثوابت الرؤى والتصورات ذات النتائج الضعيفة والغير مبنية على قاعدة معرفية مقنعة ومؤثرة في صناعة الحياة. وعليهم أن يفخروا بعطاءات العراقيين في كل مكان , وإبداعاتهم الخلاقة والمعبرة عن ثقافتهم واتساع أفق تفكيرهم , وتنوع إقتراباتهم من الحالة التي يمرون بها ويتصدون لها بكل طاقاتهم وقدراتهم الإيجابية.