من يدرك أبعاد المقولة الماركسية الحتمية التي تفيد بأن (الاضطهاد يولد وعيا والوعي يولد ثورة) لابد أن ينعطف على حكمة المتنبي العميقة التي نقتطفها من ذهبيته الميمية القائلة:
(والظلمُ من شيـّمِ النفوسِ فأنْ تجـدْ ذا عِـفـّـةٍ فـلِعِـلـّـةٍ لا يَـظـْــلـُـمِ) والتي تنطوي على قراءة معـمـّقة لدهاليز النفس البشرية، وهو طرح واقعي أثبته فيما بعد عالم النفس المعروف (سيجموند فرويد ) قبل أن يتوسّـع فيه ( يونغ ) والذي يشير فيه إلى توفر النفس البشرية على قدر من الظلمة والظلم والاستحواذ كأنه راسب قديم في أعماقها منذ العصور الحيوانية السالفة.
ويعزز هذا المذهب الآية القرآنية التي تقول: (وألهمها فجورها وتقواها )، وهذا العسف والظلم لابد إن يقع على الغير متى ما توفرت الفرص وتهيأت الظروف ونرى أن هناك علاقة بين ما تحمله الفكرة الماركسية وبين قول المتنبي وأن هناك رابطا يصل بمرتسماته إلى الزمن المعاصر الذي نعيشه ، وهذا الأمر ليس قراءة لفنجان التأريخ ولطالعه من قبل هاتين العقليتين الفذتين بقدر ما هو استقراء علمي معمق يدل على سمو ورفعة تفكيرها ، ونعتقد وفق التحليل الذي نحاول إثباته ، أن جذور الوعي وتوالده وصيرورته لا يمكن إن تنبع إلا تحت طائلة التوتر والإرباك والضغط ، والذي سمـّاه ماركس بالاضطهاد وأطلق عليه المتنبي الظلم وفي الحقيقة أن كليهما واحد، ولنذهب إلى الأمام قليلا معرجين على مقولة صارت بمثابة القانون لدى الإنسان المعاصر ونقصد بها (الحاجة أم الاختراع) ونـُـخـضـِعها للدرس قليلا ، وسوف نرى أن دال (حاجة) قد تصدّر بنية هذه المقولة، والحاجة هي العوز والفـَقـر والفاقة وما يترتب عليها من تداعيات، ونعلم كلنا أن سيف الفقر أقسى وأمضى من أي سلاح آخر لاضطهاد المرء وامتهانه وبهذا نصل إلى ترادف ثلاثي (الاضطهاد ، الظلم ، الحاجة ) ، والقارئ الحصيف لتاريخ الإنسانية يرى أن المفاهيم المذكورة آنفا هي التي دفعت بالإنسان بالثورة الأولى ضد مضطهده الأول ألاْ وهو طغيان الطبيعة وقسوتها وضغطها واضطهادها المستمر له على مدى عصـور طويلة يوم كان في خطواته الفقيرة البدائية ، لهذا فقد أثمرت ردود فعله تلك عن إنتاج تحصينات ومبتكرات تخندق فيها ووراءها درئا للأخطار وتخلصا من الهلاك ورأيناه وقد نجح نجاحا باهرا وهو في بداية مشواره ، وما كان ذلك ليحصل لو انه لجأ إلى طواطمه ومعبوداته البسيطة لترفع عنه طائلة العسف، لكنه توجه إلى مرجعه الوحيد ومخــلـّصه الأوحد ألاْ وهو العقل ، مركز التوقعات والحدس والقراءة والاستقراء ومخزن الشفرات والمعلوماتية والإنذار الباكر والوعي المركب ، نخلص إذن إلى إن اضطهاد الطبيعة لابنها البار قد أنتج وعيا إنسانيا ملحوظا ، من هذه النافذة التي نعتقد أنها تطل على بحر الحقيقة نستطيع إن نقف على ارض متماسكة أمام مقولة (الاضطهاد يولد وعيا والوعي يولد ثورة) ونفحص تراتـبـيـتها التي وضعت الوعي الإنساني بين نارين ، نار الاضطهاد الملتهبة ونيران الثورات التي لم نجد في تاريخها الطويل أية ( ثورة بيضاء ) تخلو من اراقة الدماء ونحر القرابين والضحايا والذين غالبا ما نجدهم من الأبرياء بما في ذلك ثورة الملح المسالمة التي تزعمها ( الماهاتما غاندي)، كذلك سجين القرن نيلسون مانديلا ونضاله الطويل وملايين الملايين الذين قضوا في ثورته، ورغم ذلك فلا خوف على الوعي من النيران التي تحاصره من جهـتـيهِ أو حــدّيـهِ ولا خطر عليه في عسرةِ مخاضهِ وصعـوبةِ ولادتهِ وانتهاء مآله ، لكن الخطر كل الخطر يكمن في الوعي ذاته إذا ما وُلـِـدَ مــُشـوّها مــُعـاقا وبـعــيـنٍ واحدة، فولادة الوعي الصحيح والمعافـى هو الذي هدم أسوار الباستيل الرهيبة وبـشّر العالم بولادة الجمهورية الأولى لفرنسا والتي أشرقت على ظلمة العالم آنذاك وعلـّمته أصول الحكم المدني وتداول السلطة وهزّ آخر عرشٍ ملكي في فرنسا ومن قبلهِ كبير العــُـتاة (لويس الرابع عشر ) صاحب المقولة الشهيرة ( الدولة أنا ) ، وهو الذي هشــّم أوكار القياصرة في روسيا وكانت نتائجه شرارة ثورة أكتوبر التي سرعان ما انتشر لهيبها في أرجاء الأرض لتتحول بعدها وبفعل النظرة الاحادية إلى رماد متناثر قي العقد الأخير من القرن الماضي ، وهو ذات الوعي لكن بنسخته الـمـُـشـوّهة العرجاء الذي أفرز ثورة صاحب الزنج في العراق العباسي بعد طغيان وتـعـسـّفِ ساسته (واضطهادهم) لعامة الناس وقتذاك والذي يتشابه فيـه ذلك الفوران والرفض مع ما يبدو لنا الان من مشهد مرعب في ذات البلاد التي شهـدت خراب صاحب الزنج وكأن الأيام والتواريخ مربوطة في دوامة دائرة.. وإلاْ فمن يصدّق ذلك الذي يحدث في ثرى النهرين..؟ ومن منا لم يتمنَ زوال دولة الرعاع والمخابرات والتي دام خرابها واضطهادها وصيامنا فيها لأكثر من ثلاثين سنة..؟!
ويبدو أن اضطهادها إيـّـانا ولــّد لنا وعيا مبتورا وفطورا مـسلـحا وكأنَّ ليل العراق الذي تـمـخــّض عن شمس الكتابة ومسؤولية المعرفة نراه اليوم وبجريرة البعض من متسوّليه وشذّاذهِ يدفع فاتورة ذلك السواد الفاحم..السواد الخالص لوجه التراب الذي يسد الأفق ، دما بريئا وجراحـا ناتئة ربما لا يتوقف نبضها على مدى أجيال.