- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الكيانات السياسية بين قوة المنطق ومنطق القوة
طريقان لا ثالث لهما في حل النزاعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الأول: قوة المنطق وعادة يلجأ إلى هذا الخيار من له باع في الحوار والدليل والبرهان للوصول إلى ما يصبو إليه مع الآخرين، الثاني منطق القوة وهي الطريقة التي يستخدمها الشخص خالي الوفاض من الحكمة والمنطق والدليل فتراه يلجأ للعنف والقوة لتحقيق أغراضه الشخصية أو الحزبية أو الطائفية أو الإثنية، من باب أن فاقد الشيء لا يعطيه وأن فاقد المنطق والحكمة والمجادلة بالتي هي أحسن لا يبدر منه سوى العنف والقتل للوصول إلى مآربه، وهذا النمط من الناس لا يمكن محاورته ولا يعترف بغير منطق السلاح ولا يرعوي ولا يذعن للحق والعدالة إلا بمنطق القمع والسلاح والقوة، مثله كمثل الغدة السرطانية لا يمكن علاجها إلا بالإستئصال، لإرجاع النصاب إلى وضعه الطبيعي في الركون إلى الفطرة الإنسانية والاحتكام إلى الطاولة لفض الخلافات بدلا من ساحات القتال التي لا تجلب على الأمة سوى الدمار والتخلف والويلات.
في خضم الصراعات السياسية والاجتماعية أنت في خيارين لا ثالث لهما خيار السلم واللاعنف والحوار، وخيار الحرب والوقيعة وإلغاء الأدوار، في غير حالة الدفاع عن النفس ضد الاعتداء والتجاوز، وفي غير الإذلال وانتهاك الأعراض ونهب المال العام والعبث بالمقدسات والمقدرات التي تمارسه الأنظمة الديكتاتورية الظالمة والجيوش الاستعمارية الغازية بحق الشعوب المغلوب على أمرها، في غير تلك الحالات التي يلمسها المرء على أرض الواقع ولا يمكن معالجتها من دون القوة والجهاد وأنها خاضعة لظروف ينبغي توفرها لضمان سلامة المواطن والوطن والخروج من الحالة بأقل الخسائر وهي تقدر بقدرها، في غير تلك الحالات فالعقل السليم والشرع المقدس يؤكد على ضرورة طرق أبواب السلم والمحاورة ليس مع الأصدقاء فحسب بل حتى مع الأعداء، فهذا هو الدين يهتف بنا قائلا: وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنفال : 61].
وعلى ضوء ذلك فإن الدين الإسلامي وخاصة مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) لا يتفق مع من يؤمن بالإرهاب والعنف كوسيلة لفرض رأي أو محاولة تغيير، حتى وإن كان مسلماً ويتبع مذهباً ما أو معتقداً ما، فموجة العنف والقسوة والإرهاب تأسست في أفكار بعض المتطرفين وعشش في خيالهم وأفكارهم، فأخذوا بالتصفية الجسدية والتدمير أولاً، بدلاً من المحاورة الفكرية والمسالمة، لكن الإسلام لا يؤمن مطلقاً بمفهوم العنف أو مفهوم المعاملة السيئة أو إيقاع الظلم بالآخرين، أو استخدام القسوة أو التعسف ببني الإنسان، فأفعال العنف بأنواعه التي تقع في المجتمعات وتستهدف الآخرين، والتي قد تبلغ أحياناً مستوى من التطرف والشدة أو الخروج عن القوانين، تعد خروجاً عن الدين وتعاليمه السمحة ودعوته إلى السلم والسلام وقول الله تعالى: وقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً [البقرة : 83].
وقد خطا الإسلام خطوة جبارة في رسم معالم لمنهج المسالمة والسلام وتمثل ذلك في الدعاء للعدو والصلاة لأجله، فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى الرغم مما تسبب به الأعداء لـه من الأذى كان يدعو لهم بقوله: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.
وهذه الروح العظيمة تجسدت في بكاء الإمام الحسين (عليه السلام) على الجيش الذي وقف أمامه في كربلاء حيث أجاب حين سُئل عن بكائه: أبكي على قوم يدخلون النار بسببي، انظر إلى هذا الموقف النبيل أن الإمام الحسين عليه السلام يبكي أعداءه الذين يشهرون السلاح للانقضاض عليه، ما هذه الرأفة وما هذه الرحمة ما هذه الشفقة؟! ليس اعتباطا أنه تبوأ مقامات رفيعة من ضمنها مصباح هداية وسفينة نجاة وسيد شباب أهل الجنة إلا لأنه قد وطن نفسه لله وتخلق بأخلاق الله فكانت مواقفه نبيلة خالدة حري لجميع الذين يتوقون إلى نظام العدل الإلهي تقمصها وتبنيها لتقديم النموذج الراقي في التعامل الإنساني للمجتمعات البشرية برمتها.
إن الدين الإسلامي دين سلام، دين محبة بين البشرية جمعاء، وإن الله سبحانه وتعالى بعث للبشرية أفضل السبل عن طريق رسوله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث أرسله رحمة وهدى للعالمين لينير لهم الدروب والسبل ويوضح لهم طريق الخير والمحبة، فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وآل بيته الطاهرون (عليهم السلام) هم دعاة سلم ومحبة ومسالمة، دعاة نبذ العداوة والعنف، وحل المنازعات باللاعنف، رغم أن الإنسان في تكوينه قد يرغب في القسوة واتباع طرق العدوان، إلا أن آل البيت (عليهم السلام) كانوا أشد رحمة بالبشرية جمعاء.
يُعرِّف الإمام الشيرازي اللاعنف كالتالي: أن يعالج الإنسان الأشياء سواء كان بناءً أو هدماً بكل لين ورفق، حتى لا يتأذى أحد من العلاج، فهو بمثابة البلسم الذي يوضع على الجسم المتألم حتى يطيب.
ولذا فالواجب على التيار الإسلامي والدولة الإسلامية اختيار اللاعنف في الوصول إلى مآربهما، وهي إقامة الدولة الإسلامية بالنسبة إلى التيار وإبقاؤها بالنسبة إلى الدولة القائمة، حتى تتسع وتطرد في بعدي الكم والكيف.
إذاً \"فاللاعنف -كما يقول- يحتاج إلى نفسٍ قوية جداً، تتلقى الصدمة بكل رحابةٍ، ولا تردها، وإن سنحت الفرصة. واللاعنف يتجلى في كل من اليد، واللسان، والقلب، وأحدها أسهل من الآخر... نعم.. ليس من اللاعنف أن لا يقي الإنسان جسمه من الصدمة الموجهة إليه، فهو وقاية لا عنف، والوقاية من اللاعنف\"(الشيرازي. إلى حكم الإسلام، ص 50-51). استخدام استراتيجية اللاعنف اليدوي ضرورة محتمة بالنسبة إلى من لا قوة له -وكذا من له قوة؛ فبغير هذا النهج قد لا تنجح الدعوة، وما كتب النجاح لدعوات الأنبياء والمصلحين؛ لولا استخدامهم لهذا الطريق الذي هو خيار لكل مصلح عظيم، وصاحب مبدأ رشيد، \"فما تقول في نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وآله؟ هل كان يردُّ الإيذاء -في مكة-؟ إن التاريخ يشهد بأنه كان يتجرع الاعتداءات اليدوية بكل رحابة.. فحين كان أبو لهب يحصبه بالحجارة، وأم جميل تلقي في طريقه الأشواك، وكافر آخر يفرغ على رأسه الكريم سلى الشاة وهو في الصلاة، ومشرك يبصق في وجهه الطاهر، وزائغ يلقي القذارة في طعامه، ومولى أبي جهل يشج رأسه بقوس، و.. كان يقول: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون). وهكذا كان نوح ولوط وإبراهيم وإسماعيل (عليهم السلام)... واللاعنف اليدوي سلاح، يجلب إلى الداعي النفوس، ويؤلب على أعدائه الناس\"(نفس المصدر، ص 52-53)، ولذا يحكى عن (غاندي) محرر الهند قوله: تعلمت من الحسين (عليه السلام): كيف أكون مظلوماً فأنتصر. وما أحوجنا -نحن- لتعلم هذا الدرس؟
وهذا الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) -كمثال آخر لسلوك اللاعنف- يقول في أمر الخلافة: \"لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري. والله لأُسلِّمنَّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جورٌ إلاَّ عليَّ خاصة التماساً لأجر ذلك وفضله، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفة وزبرجة\"( الإمام علي بن أبي طالب (ع). نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ط1، بيروت: المكتبة العصرية، 1422هـ، ص 95). كما أن علياً (عليه السلام) هو الذي هتف بأمرٍ من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) -عندما فتح المسلمون مكة المكرمة- بشعار: اليوم يوم المرحمة اليوم تحمى الحرمة.. بعد أن ردد سعد بن عبادة شعاره الجاهلي: اليوم يوم الملحمة اليوم تسبى الحرمة!.. وللقارئ أن يتأمل الفرق الكبير والشاسع بين الشعارين!! ليطمئن إلى أن السلم واللاعنف خيار استراتيجي في الإسلام، إذ أن الأصل في الإسلام السلم واللاعنف.
تأسيسا لما سبق فقد انبرى أعداء الإسلام إلى خلط الأوراق والاصطياد بالماء العكر، وأخذ الإسلام الطالباني والمليشياوي على عاتقه بتنفيذ مآرب الدوائر الماسونية للإيقاع بين المسلمين من جانب وتشويه صورة الإسلام الحقيقية الناصعة واظهاره بأنه دين عنف وارهاب وقسوة من جانب آخر، يعملون جاهدين على تنفيذ هذه الأجندة القاتلة تحت مسميات متعددة منها مقارعة المحتل وأذنابه والدفاع عن بيضة الإسلام وتطبيق الشرع المقدس، وهم في حقيقة الأمر يطولون أمد الاحتلال ويوفرون له المسوغات والتبريرات لبقاءه بحجة مكافحة الإرهاب، ويبطشون بالناس ظلما وقتلا وتهجيرا بحجة التكفير تارة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تارة أخرى، يعملون كل ذلك باسم الجهاد والدفاع عن حقوق المواطن؟! ما هي علاقة القتل على الهوية وتصفية النساء والعقول وعمليات التهجير القسري والإغارة على المال العام وضرب المؤسسات الخدمية، ما هي علاقة هذه الأمور بالجهاد ومقارعة المحتل؟!
إذن هي أجندة تحاك خيوطها خارج نطاق الوطن لتمزيق الأمة وابقاؤها في وحل الفقر والتخلف والجهل لأغراض طائفية وجهوية ليس لها علاقة لا من بعيد ولا من قريب بالإسلام، وإنما اتخذ المأجورون المحسوبون على الإسلام زورا وبهتانا يافطة الدين والعدالة شعارا لهم لاخداع البسطاء من الناس واستغلال ميولهم الدينية والعقائدية لتنفيذ مآربهم الحزبية والطائفية الضيقة، وكذلك مآرب الأنظمة الظالمة التي تعمل جاهدة لتقويض كل تجربة طموحة تحقق تطلعات الشعوب العربية في الحرية والديمقراطية، وتحقق العدالة في توزيع الثروة والسلطة على أساس المواطنة والنزاهة والكفاءة كما صرح بذلك الإسلام الحقيقي، وليس على ما هو عليه الإسلام الطالباني والمليشياوي والقومجي الذي تكون العدالة فيه على أساس التملق للحزب الأوحد أو التسبيح بحمد العائلة المالكة أو الانتماء إلى القائد الضرورة في الأنظمة الاستبدادية الظالمة.
أسئلة نطرحها أمام المليشيات المسلحة الخارجة عن القانون والتي تؤمن بالعنف كمنهج لتنفيذ أجندتها بعيدا عن المحاورة والسلام، هل الظلم الناتج عن المحتل الأمريكي أفدح من الظلم الصدامي في النظام البائد بحق المواطن العراقي ؟! هل أتاح نظام صدام لكم المشاركة في الحكم مثلما أتاحه المحتل الأمريكي؟! في أي النظامين كان لكم حرية التحرك الديني والسياسي والاجتماعي والمكتبي والثقافي والمطبوعاتي، هل في النظام البعثي أم في نظام المحتل الأمريكي الكافر؟! حرائر العراق وكرامة المؤمنين وأموالهم وأعراضهم وثرواتهم هل هي كانت مصانة في النظام البائد أكثر أم في زمن الاحتلال؟! هذه الأسئلة وغيرها الكثير تبحث عن أجوبة مقنعة يتوصل إليها المتجرد عن الحزبية والذي كان يسكن في العراق ولا زال والذي شاهد وعايش العهدين الصدامي والأمريكي، وحينئذ يستطيع أن يحدد أيهما يستحق العنف والجهاد وأيهما يتجاوب مع المطاليب المشروعة بالسلم والحوار... وسلام من الله عليكم.
أقرأ ايضاً
- توقعات باستهداف المنشآت النفطية في المنطقة والخوف من غليان أسعار النفط العالمي
- اهمية ربط خطوط سكك الحديد العراقية مع دول المنطقة
- ثورة الحسين (ع) في كربلاء.. ابعادها الدينية والسياسية والانسانية والاعلامية والقيادة والتضحية والفداء والخلود