- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
العراقيون و قانون الفرص المتناقصة
الفرصة: هي الظرف الذي يتيح تحقيق المنفعة او الغاية المرجوة وعدم اغتنامها لا يؤدي الى التفريط بها وحسب. بل والى تناقص منفعتها ان هي تكررت. وهو ما يسوّغ القول الشائع: \" الفرصة لا تتكرر \". والذي لا يمثل ـ بتقديري ـ كلاما انشائيا او مجازياً، بل حقيقة
ترقى الى مصاف القانون في مجالات الحياة كافة. ويجد كل من اصحاب الاختصاصات المعرفية المختلفة ترجمة لها في مجال اختصاصه. وبقدر تعلق الامر بعلم الاقتصاد السياسي (مجال اختصاصي) تقترن هذه الحقيقة لدّي بما يسمى بقانون المنفعة الحدية (المتناقصة)، وقرينه قانون الغلّة المتناقصة. واذ لا اريد ان ازجّ بالقارئ غير المتخصص في الاقتصاد بحيثيات هذين القانونين، اكتفي بالاشارة الى دلالتيهما العامة ومفادها: ان المنفعة التي تحققها كل سلعة مضافة تقلّ (تتناقص) عن منفعة سابقتها. وهو ما يعني ان الفرصة المتكررة لا تحقق لصاحبها درجة نفع ومزايا سابقتها.
وتتجلى هذه الحقيقة في مجالات الحياة كافة. ففوائد ومزايا الزواج في الاربعينيات من العمر تقلّ عنها في العشرينيات منه على جميع المستويات: الفسلجية والنفسية والسلوكية. ومنافع الثروة التي يحظى بها المرء ابّان شبابه تزيد عليها وهو في خريف العمر. كما ان الطالب الذي يرسب في سنة دراسية يكون قد اهدر سنة من عمره، وإن نجح في السنة اللاحقة. بهذا المعنى نفهم حقيقة ان الفرصة المهدرة لا تعوّض وإن تكررت لما في ذلك من اخلال بمبدأ التراكم.
يخاطب القرآن الكريم البشر في الآية 61 من سورة \" هود \" بقوله \" هو انشأكم من الارض واستعمركم فيها \" أي اوكل اليكم اعمارها. وبهذا فإن مسؤولية الانسان في اعمار الارض تزداد كلما زادت فرص الاعمار المتاحة له. فإن هو فرّط بها يكون قد حرم نفسه من مزايا تراكم المنافع، واخلّ بقواعد وسياقات البناء المتصاعد.
حين نجول بنواظرنا في بانوراما بلدان العالم الثالث في القرن العشرين، لا نشاهد مشروعاً وطنيا لحقت به خيبات متعاقبة مثل المشروع السياسي العراقي (1921 ـ 2003) بمعيار التفريط بالفرص الذهبية التي اتيحت له. يعدّ العراق في طليعة البلدان النامية التي شغلت موقعاً في الوسط الدولي في وقت مبكر. ففي سنة 1932 اصبح العراق الدولة السابعة والخمسين في عصبة الامم، ما اهله لاحقاً ان يكون عضواً مؤسسا في هيئة الامم المتحدة. واذا علمنا ان عدد الدول الاعضاء في هيئة الامم المتحدة يبلغ الان 192 دولة (معظمها من بلدان العالم الثالث) لنا ان نقدر عراقة موقع الدولة العراقية في الوسط الدولي.
قامت الدولة العراقية الحديثة على اساس دستور سنة 1925 الليبرالي، الذي استوحى المشرّع مواده من الدساتير الغربية. واذا كان ذلك الدستور قد اخفق في تفعيل كثير من مواده، فلانه لم يحظ بحاضنة اجتماعية وثقافية مؤهلة لتلبية متطلباته. اما على مستوى الثروات الطبيعية فيصطف العراق في مقدمة بلدان المنطقة: نهران عظيمان يحتضنان ارضاً خصبة طالما سميت \" ارض السواد \" لكثافة نباتاتها، ما حفز لقيام اقدم الحضارات الانسانية بين ربوعها. ثم جاء التدفق التدريجي لايرادات النفط منذ اواسط ثلاثينيات القرن الماضي ليعزز رصانة المركز المالي للدولة العراقية. وإذا اضفنا الى ذلك موارده البشرية التي تمثلت بزيادة سكان العراق على تعداد سكان كل من البلدان العربية الاسيوية، تكون قد توفرت للعراق عوامل الانتاج الاساسية الثلاثة (الارض ورأس المال والعمل). واضافت النظرية الاقتصادية الحديثة عاملاً جديداً رابعاً لعوامل الانتاج اطلقت عليه تسمية: التنظيم.
ويقصد بالتنظيم ادارة العمل باسلوب فاعل يؤمن الاستخدام الامثل لعوامل الانتاج الثلاثة اعلاه. وتدفع نظريات ادارة الاعمال الحديثة بالتنظيم الى مصاف العامل الاكثر اهمية وخطورة. وينقل عن احد رجال الاعمال الاميركان الكبار قوله: \" صادروا كل موجوداتي (اموالي) واتركوا لي الّية التنظيم فقط، وستروني اعود الى السوق خلال سنة واحدة \". يكمن سر الكبوات التنموية في العراق في سوء ادارة موارده (المالية والطبيعية والبشرية)، والى درجة التفريط بها جميعاً. الامر الذي قاد ببلدان كانت تتخلف عنه حتى ستينيات القرن الماضي باشوط ان تتقدم عليه الان باشواط بعيدة. ما يذكرني بقول الطغراني في لامية العجم.
تجاوزتني اناس كان شوطهم وراء خطوي اذ امشي على مهل
حين نستذكر الفرص الذهبية التي ضاعت على العراقيين، فليس ذلك على سبيل البكاء على الاطلال ـ وان تستحق منا العويل ولطم الخدود وشقّ الجيوب ـ بل لنتعظ بها، ونتعلم كيف نفيد مما تبقى امامنا من فرص، بعيداً عن الثوابت المؤدلجة التي تربينا عليها، وإلا ضيعنا على انفسنا الفرص المضافة.
لم تقتصر لعنة الاستبداد النفطي على هدر عائدات النفط وحسب، بل امتدت الى قطاعات الاقتصاد الاخرى فأصابتها بالشلل، مشوهة بذلك هيكلية الاقتصاد العراقي. فكانت بذلك مثل الضفدع الذي لا ينام، ويحرم الناس بنقيقه من النوم. لقد نجح الاستبداد النفطي في ان يكبّل المجتمع العراقي بأصفاده، حتى بعد ان انهارت واجهته السياسية، فيفرض على العراقيين واقعاً استعبادياً: وهو ان الثروة النفطية اصبحت الملاذ الوحيد للعراقيين، والفرصة التي تنفرد بتحديد مسارات مستقبلهم على مدى المستقبل المنظور.
ولم يعد الاعتماد على الثروة النفطية اختياراً امام العراقيين ـ كما كان الامر قبل عقود ـ لان الاختيار يفترض قبول الشيء او العزوف عنه ـ بل حتمية لا مفر للعراقيين منها. وحين تضيق السبل بالمرء، فما عليه الا ان يحسن وبحكمه استخدام السبيل الوحيد الذي امامه، من دون نزق او عناء او تحجر.
اقول هذا لمناسبة مرور سنة على صدور المسودة الاولى لقانون النفط والغاز في (15/ 2/ 2007). ويعلم الله كم سيمر من الوقت ريثما نتفق عليه ونقرّه. واتساءل: هل امسك اولو القرار بالورقة والقلم ـ كما يفعل صاحب الدكّان والجمبر ـ وحسبوا ماذا يترتب على كل يوم تأخير في اقرار القانون من خسائر للعراق في عوائد النفط المرتقبة على مدى السنوات القادمة.
اقرّ ان العديد من مواد القانون مجحفة بمصالح العراقيين، وتتقاطع مع معايير الثقافة الوطنية التي تربينا عليها عبر عقود: ثقافة قانون رقم 80 لسنة 1961 وقوانين تاميم شركات النفط الاجنبية لسنة 1972. ولكن ينبغي ان لا يفوتنا ان تلك المعايير الوطنية الحميمة كانت تصلح لزمن مضى. وتغيرت منذ ذلك الحين موازين القوى الدولية وهانت مقومات منعة العراق. فالاحتكارات الاجنبية التي كنا نتضايق من وجودها بين ظهرانينا، اصبحت اليوم من اهل البيت. ولقد مضت وانقضت ايام صبا الوطنية العراقية، بنقاوتها وبراءتها وتلقائيتها الحلوة، حينها كنا ننشد باعلى صوتنا:
بيتنـه ونلعـب بـي
شلهه غرض بينه الناس