رمضان شهر التقوى والجهاد والتكامل أم شهر السهر واللهو والتهام الحلوى ومتابعة المسلسلات الماجنة!! ربما يكون لقلب المرء إقبال وإدبار بيد أنه توجد ثمة محطات إلهية للتزود بالتقوى وتهذيب النفس من الأدران والموبقات ومن أهمها رمضان الكريم، الذي جعله الله تعالى ليضخ الإنسان فيه بحزم نورية من الإيمان والورع كيما يشق طريقه وهو على بصيرة من أمره ينتخب المفيد المنجي ويقذف بالترهات وحبائل الشياطين وما أكثرها في زمن الانترنيت والفضائيات وراء ظهره، أنا لا أقول أن يقتصر عمله بالطاعة وقراءة القرآن والأدعية فحسب، ولو أنها مهمة ومنجية وهي تزدهر بربيعها رمضان، بيد أن المؤمن ولكي يوائم بين العبادات والمباحات، لا بأس بمشاهدة بعض المسلسلات الاجتماعية الهادفة والمناظرات الدينية النافعة، وكذلك زيارات الأهل والأقرباء لاسيما بعد الإفطار فإنها من صميم الدين الذي أكد مرارا على صلة الرحم وما يترتب عليه من نزول الرحمة في شهر الرحمة والغفران، وهذه الأمور تصب جميعها في خانة التقوى التي هي ثمرة الصيام الأولى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183)
فالمؤمن الحقيقي يكون عامه كلـّه تقوى وإيمانا، وحبّا وطاعة للرحمن، تراه صائما في النـّهار وقارئا للقرآن، وذاكرا للرّحمن، ومحاربا للشيطان، وإذا جنّ عليه الليل فهو ما بين راكع وساجد، ولله خاشع وخاضع.
أما بعض الأشخاص تراهم عكس ذلك تماما فهو يفرط في هذه الفرصة الثمينة التي وهبها الرحمن له، إذ أن الشياطين مصفدة وأبواب الجنان مفتحة، وأنفاس الصائم فيه تسبيح ونومه عبادة فحري به أن يستغل هذه الفرصة الذهبية للاستزادة من التقوى والعلم والمعرفة والتكامل الروحي لينجو من مرديات الدهر التي تقضي على روح الإيمان في الكثير منا خصوصا إذا غفل عنها وتساهل إزاء التعامل معها، تراه وبدلا من التزود بالتقوى في شهر التقوى، فإنه يفرط في جنب الله ورمضان عنده شهر المحيبس والغيبة والنميمة، شهر السّهر والأفلام ، شهر الجلوس أمام القنوات ، شهر الراقصات والمغنـّيات ، شهر فوازير رمضان مع المذيعات الكاسيات العاريات،
شهر يكثر فيه التـّرف وأكل الحلويـّات، شهر يصاب البعض منا بالتـّخمة ويأخذ إلى المستشفيات.
فرمضان بالنسبة إلى أولئك المغفلين هو شهر المعاصي للواحد الديـّان، فتراهم يصومون عن الأكل والشراب ولا يصومون عن الكذب والغش والنـّميمة والغيبة والسبّ واللعنّ والطعن والهمز، بل ــ عياذا بالله تعالى ــ لم ينجُ من ألسنتهم حتـّى العلماء والمؤمنون في رمضان ولا في غيره، بل انتشر فينا قول الزور وشهادة الزور حتـّى في رمضان، وهذا هو الشقاء بعينه حيث أن الشقي من حرم الغفران في أجواء الرحمة الرمضانية الإلهية المتاحة لجميع العباد ولا يتلقاها إلا ذو حظ عظيم.
وعند استعراضنا آراء بعض الشرائح الاجتماعية بشأن رمضان المبارك وما يشهده من عادات وتقاليد وما يعيشه المؤمن من أجواء إيمانية تشوبها زيارات الكبار وما يترتب فيها من تقديم الحلوى والشكولات، وطالما تبقى هكذا مجالس عالقة في الأذهان لاسيما تلك التي يشوبها شيئا من الفكاهة والطرف والنكاة والقصص المعبرة التي تنطلق من الكبار وأهل الثقافة والريادة والمنطق، فالأخ عقيل مسلم وهو من المغتربين الذين إلتقيناه وهو يزور الأهل في العراق قد أكد أنه لم يكن الصيام حكرا على المسلمين فمنذ أن خلق الله البشر نرى أن أمم العالم القديم والحديث قد مارست الصيام ولا زالت، وعندما نقرأ التاريخ نجد أمما قديمة وحضارات عريقة كان من بينها (البابليون، الهنود، المصريون القدامى، الروم) اعتبرت الصيام عملا صالحا والدافع إلى ذلك كان (شكر الله) لدفعه البلاء عنهم في أوقات ارتبط الصيام فيها بأيام الحداد وساعات الخطر، والمسيحيون يصومون يوم الأربعاء والجمعة والسبت من كل أسبوع طلبا للنجاة من كل مصيبة، ولن نعجب أيضا..فالسوريون القدماء يمسكون عن الأكل كل (سابع يوم) وبعد أن نفذ نور الإسلام إلى كل شعوب العالم من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه..
تعددت ألوانهم وأعراقهم وألسنتهم وأراضيهم... فكان بديهيا أن تختلف عاداتهم وتقاليدهم خصوصا أثناء هذا الشهر شهر الخيرات شهر رمضان المبارك.
وطالعنا حسين عبد الأمير وهو طالب جامعي من بغداد: نحن الآن على أعتاب شهر رمضان، نعيش عمرنا في واحة طيبة خضراء، نستنشق جوها النديّ المنعش، ونتفيّأ ظلالها الوارفة المعطاء، في نشوة روحية عابقة، ونتنفّس في أسحارها الطيبة أنفاس الإيمان والهدوء والطمأنينة، عندما ينطلق الإنسان مع ربه في مناجاة شاعرية عذبة، واقفة بين الخوف والرجاء، واثقة بعفو الله ورحمته، رامقة لطفه وكرمه وجزيل عطاءه الذي لا ينبض،
وهكذا تسمو النفس الإنسانية أمام ربها في روحانية الدعاء وقدسية الموقف، فتطمئن وتهدأ ويتحول قلقها من مصيرها المجهول إلى اطمئنان وثقة وإيمان بعفو الله ورحمته ورضوانه، فتشيع المحبة والوداعة والصفاء في أجواء الحياة، لتنسكب في غديرها أخوَّةً ومودةً وإخلاصاً في هذا الشهر العظيم.
ويصف الحاج علي الفتلاوي من أهالي الديوانية عادات وتقاليد العراق في شهر رمضان المبارك قائلاً: ما أن يهل هلال شهر رمضان الكريم حتى ترى البسمة ترتسم على شفاه الكبار قبل الصغار في العراق، ويؤكد الفتلاوي أن العراقيين ينتظرون ثبوت هلال الشهر الفضيل بلهفة، حيث أن بداية الشهر تشهد زيارات عائلية للأسر العراقية التي تتبادل التهاني من خلال هذه الزيارات بحلول الشهر الفضيل، كما يقوم في العادة كبير أو عميد العائلة بدعوة كامل العائلة لتناول طعام الإفطار في بيته.
وعن العادات الايجابية التي تتجلى من خلالها أسمى معاني التكاتف الاجتماعي يقول: يتم حصر وتحديد الأسر الفقيرة خاصة في المناطق الريفية ثم يقوم الجيران بتقديم وجبات الإفطار لهم يومياً بالتعاون بينهم، ويؤكد أن عمل الخير لا يقتصر على الأغنياء، جميع الجيران أغنياء وفقراء يتعاونون لمساعدة العوائل المعدمة.
وللأطفال قديما ولا زالت بعضها في وقتنا الحاضر نصيبهم في العادات الرمضانية حيث أنهم يجتمعون في أحيائهم قبل الإفطار يومياً كتقليد قديم متوارث ليتجاذبوا أطراف الحديث، ويقصون على بعضهم الحكايات، ويخبرون بعضهم بعضاً عن مكونات مائدة إفطارهم لذلك اليوم إلى أن يحين موعد الإفطار لينطلقوا إلى بيوتهم بعد دوي مدفع الإفطار ثم يعودوا بعد أن يشبعوا بطونهم من مائدة رمضان إلى المحلة مرة أخرى ليعاودوا ألعابهم ولهوهم مرة أخرى، ويذكر على رأس الألعاب التي يمارسونها الماجينة والبات (المحيبس) وغيرهما من الألعاب.
وفيما يتعلق بالسهرات الرمضانية يذكر الحاج (خضير جاسم) من كربلاء المقدسة أن أهالي المدينة إضافة إلى الزائرين يتوجهون زرافات ووحدانا ولاسيما بعد تناول الإفطار إلى مرقدي الإمام الحسين وأخيه أبي الفضل العباس عليهما السلام وكذلك إلى الجوامع في الأحياء البعيدة لإحياء لياليه ولاسيما في ليالي القدر بقراءة القرآن والأدعية وسماع المواعظ والإرشاد من خطباء المنبر الحسيني، وطالما يحلق المرء في مثل تلك الأجواء بفضاءات واسعة من الإيمان والتقوى والخلق الرفيع لما يحمله هذا الشهر الفضيل من نعم وبركات وسبل هداية، وإن تلك الأجواء غاية في الروحانية وتختلف كثيراً عن الأيام العادية.
وفيما يتعلق بحلويات العراق الرمضانية فهي حسب ما قاله أحد روادها في كربلاء المقدسة قائلا: هي تتمحور بشكل رئيسي بالبقلاوة والزلابيا التي تنتشر إضافة إلى الحلويات الأخرى بشكل ملفت في جميع الأسواق والمحلات الشعبية، حيث تشهد تلك المحلات طوابير المشترين وخصوصا قبيل أذان المغرب لشراء ما تطاله إمكانية العائلة لتزين بها سفرة الإفطار المتنوعة، ولشراء متطلبات ومستلزمات العيد كسائر الدول الإسلامية يقبل الناس على شراء المنتجات المحلية المتعارف على تقديمها في الأعياد مثل الزبيب واللوز والجوز وبقية المكسرات والشوكولاته بالإضافة إلى إعداد (الكليجة).
ومسك الختام كانت لنا وقفة مع أحد أساتذة الحوزة العلمية في كربلاء المقدسة الذي لخص العلة الجوهرية من الصيام في التقوى وما تبثه في المؤمن من معطيات هي التي تقوم السلوك وهي التي تفرز آلية التحرك النخبوي حيال الأحداث وتسقيطها على الواقع المعاش لضمان السعادة بعيدا عن المنغصات التي قد تشوبها مسيرة الحياة الشائكة، فأردف قائلا: إن رمضان في شهور العام هو تلك الساعة الحلوة في ساعات اليوم؛ فهو شهر خلوة نفسية يتجرَّد فيها الإنسان معظم وقته عن مطالب المادة ولوازم الشهوات، وتسبح نفسه في عالم كله جمال وروعة وأُنس وبهجة، ولعل رمضان من أعظم مواسم التقوى، والصيام مسلك من مسالكها، فمن أجل حكم الصيام: الحصول على التقوى. ولكن هل فهم المسلمون هذا المعنى من الصيام؟! إن كثير منهم وللأسف لم يفهموا منه إلا الإمساك عن الطعام والشراب والنكاح، لكنهم عن كثير من الشهوات لم يمسكوا!! فإنه يؤدي الصلاة ويمسك عن الطعام بيد أنه لا يتورع عن ارتكاب المعاصي كخوضه في أحاديث الغيبة والتهم والافتراء، وتبديد وقته في مجالس اللهو واللعب أو مشاهدة البرامج المخلة بالشرف والمخدشة للفضيلة، فمثل هكذا صائم لا يجني من صيامه إلا الجوع والعطش ولا يكون الصيام بالنسبة إليه محطة للعروج والسمو الروحي للحصول على مراتب الكمال والفوز بالدارين كما هو المؤمل والمرجو من فلسفة تشريعه في الإسلام.
تحقيق: حسن الهاشمي
أقرأ ايضاً
- شهر رمضان في ذاكرة كبار السن بمحافظة كربلاء المقدسة
- الأسواق الشعبية في كربلاء تاريخ ودلالة
- الرسالة الرمضانية..يوم من ايام شهر رمضان في مدينة كربلاء المقدسة