بقلم: علي الراضي الخفاجي
ليست الأربعين عدداً مجرداً ننتظر من بعده الاستمرار في العد، إنما هي مناسبة لم يحظ بها شهيد بعد رحيله عن الدنيا إلا سيد الشهداء على الإطلاق الإمام الحسين عليه السلام، حتى تحولت إلى مناسبة إطارها (مسيرة ومشهد)، فما حصل يوم عاشوراء كان ملحمة قد فاقت الملاحم، وكان من مصاديق الفتح الذي وعد به سيد الملحمة، وذلك ما لمْ يجعل اليوم عابراً، فلعظم شخصية الشهيد وعظم قضيته التي ارتبط مصير الإسلام بها وبما جاء به من تعاليم وشريعة خالدة هو ماجعل الإمام ينفرد بأربعينية لذكرى استشهاده؛ لأجل إظهار مظلوميته وفضح الانحراف وكشف الانقلاب وتعرية السلطة الأموية الغاصبة، ولتأسيس معالم ثورية تستفيد منها الأجيال في طريق الحرية والكرامة، حتى أصبح المشهد عظيماً بكل معنى الكلمة، لاتضر مع جوهر حقيقته المظاهر السلبية والمحدثات ومحاولات تفريغ المحتوى، ولعلَّ من صوره نسمع لسان حال كل من أدى الزيارة والخدمة بإخلاص أنه يودع كربلاء مخاطباً:
كربلاء..
أودعناك قلوبنا..
ووهبناك دموعنا أمانةً حتى نعود.
وإنا لحلول الربيع منتظرون..
لنستمرَّ بالحياة مسترشدين..
ولنبدأ العدَّ إلى الأربعين..
فمن ربيعٍ إلى أربعين انتظرينا.
الجميل أنَّ بعد شهرين من التفجُّع والاستذكار المكثَّف يحلُّ علينا الربيع لينفِّسَ عن صدورنا ولو شيئاً يسيراً، خصوصاً ما يتخلله من ولادة عطرة للبشير النذير المصطفى الأمجد محمد صلى الله عليه وآله.
لقد اقتضت المناسبة منا التزامات عدَّة نظهر بها الولاء لصاحب الذكرى ولقضيته ونعلن الانتماء لمدرسته، وهنا يطرح سؤال: ما الذي يجب علينا بعد الأربعين؟
عندما يتأمل الموالي مايجري في هذه المناسبة من مشاهد إنسانية راقية سواء كانت في المسير أم في ساحة كربلاء وأضرحتها يتخيل مسيل الدم وصراخ العيال والاستغاثة، مما ينبغي عليه وهو يغادر هذا المشهد عائداً إلى دياره وعمله أن يطبق ما تعلمه وسمعه ورآه بالشكل الذي يوظف فيه طاقاته لتحقيق طموحاته المشروعة في الحياة، سواء كان في الارتقاء بمستواه التربوي أوفي مشاركته الآخرين في بناء المجتمع، إضافة إلى واجباته الدينية والدراسية والوظيفية والبيتية، وتفعيل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا أن يعود إلى ماكان عليه من قبل تماماً كالذي يعود بعد شهر الغفران رمضان إلى الغفلة والعصيان، فيخفت الضياء الذي اكتسبه بعد أن شعَّ في قلبه وضميره تلك الأيام، والحال يفرض على الموالي أن يكتسب ثقافات عدَّة، وهي في الغالب كانت غائبة عنه أو بعيدة عن اهتمامه أو لم يجد لها فرصة للتطبيق، وربما كان السبب ذهابه ضحيةً للصراع القبلي والنوازع الفردية التي تربى عليها في بيئته، إضافة إلى سيطرة حب المال والجاه والسلطة، وأقلُّ ما في هذه الثقافات المطلوبة هو: الرحمة والإيثار والصبر على النوائب، والثبات في المواقف، وتحكيم العقل والتحكم في الغضب، والتمسك بالقيم والأخلاق النبيلة.