يواجه العراق مشكلة مزدوجة منذ ما يزيد على عقدين من الزمن، ففيما يستورد الغاز بمليارات الدولارات سنويا لتشغيل محطات توليد الطاقة الكهربائية، فهو في المقابل يحرق يوميا ما يمكنه من تأمين احتياجاته وتجنب إنفاق هذه المليارات وحماية البيئة من التلوث، وفيما أكد مختصون على ضرورة استثمار هذه الثروة المهدورة، عزوا من جانب آخر، التلكؤ في هذا الملف إلى "سياسة الحكومات" و"الفساد"، متوقعين عدم نجاح البلاد باستثمار الغاز خلال السنوات المقبلة، بل سيحتاج إلى سنوات طويلة.
ويقول الخبير الاقتصادي منار العبيدي، إن "العراق يقوم بشراء كميات كبيرة من الغاز بحدود ستة مليارات دولار سنويا من إيران، لذلك فإننا نحتاج إلى استخدام هذه الكميات من الغاز لتشغيل محطات الطاقة الكهربائية التي لا تعمل على نوع وقود ثانٍ غير الغاز، بالإضافة إلى ذلك فإن الحكومة لا تستطيع بناء محطات للغاز، فهذا يحتاج إلى مبالغ كبيرة ومدة طويلة وشركات تمتلك الخبرة اللازمة".
ويشدد العبيدي، على ضرورة أن "تكون هناك جولة تراخيص غازية مشابهة للجولات النفطية، ليتم جذب شركات استثمارية أجنبية تمتلك الخبرة الكافية لتحويل الغاز المصاحب إلى طاقة، وقد بدأ العمل بالفعل على موضوع تراخيص عقود الغاز"، مرجحا أنه "من الآن وحتى خمس سنوات مقبلة قد تبدأ عملية استثمار الغاز ونستغني المستورد من إيران أو دول أخرى".
ويؤكد أن "العقود السابقة في غالبها كانت مجرد مذكرات تفاهم ولم تصل إلى مرحلة العقود ودائما تتوقف وذلك لأنه يتم التوقيع مع شركات غير رصينة أو شركات وسيطة وفيما بعد تظهر المشاكل، لذلك لا أستطيع الجزم أن العقد الأخير الذي سيكون مع شركة عراقية سيؤدي إلى فشل أو نجاح".
وكانت الهيئة الوطنية للاستثمار، أعلنت في 5 آذار الحالي، عن توقيع إجازة مع شركة عراقية لاستثمار الغاز المصاحب، مبينة ان كلفة المشروع بلغت 2.6 مليار دولار بتنفيذ 36 شهرا، فيما بينت أن استثمار الحقل سيكون على 300 مقمق عبر مرحلتين بواقع 150 مقمق لكل مرحلة، وهذا يعادل ثلث ما يتم استيراد من الغاز.
وكانت وزارة النفط، نجحت في العام 2010 بتشكيل شركة غاز البصرة بالتعاون مع شركتي شل ومسيوبيشي، ووضعت خطة لاستثمار الغاز المصاحب من أربعة حقول نفطية في البصرة، وتمكن هذا التحالف من إنجاز 50 بالمئة.
وكان رئيس الحكومة محمد شياع السوداني، رعا في تشرين الأول من العام الماضي، توقيع مذكرة تفاهم لاستيراد الغاز من تركمانستان.
يشار إلى أن إدارة معلومات الطاقة الأمريكية، ذكرت أن العراق أشعل 629 مليار قدم مكعب من الغاز الطبيعي، بسبب عدم كفاية خطوط الأنابيب والبنية التحتية لغاية الآن، مبينة أن هذه الكمية المحترقة من الغاز تكفي لإمداد 3 ملايين منزل بالطاقة.
وتشير بيانات البنك الدولي إلى أن افتقار حقول النفط العراقية لمعدات جمع الغاز، يؤدي سنويا الى حرق 18 مليار متر مكعب من الغاز المصاحب للنفط، وبحسب تقديرات دولية، فإن هذا الحرق يكلف العراق 2.5 مليار دولار سنويا، أو ما يعادل 1.55 مليار متر مكعب من الغاز يوميا، وهو ما يعادل 10 أضعاف ما يستورده العراق من إيران.
وبهذا الصدد، توضح المختصة باقتصاديات النفط، التدريسية بكلية الإدارة والاقتصاد في جامعة دهوك، سعاد عبد القادر، أن "العراق وقع منذ سنوات عشرات العقود الخاصة باستثمار الغاز المصاحب، وآخرها قبل أيام، ولم يستفد العراق حتى الآن من جولات التراخيص في استثمار الغاز الطبيعي، مثلما استفاد من رفع معدلات إنتاج النفط".
وتعزو عبد القادر، ذلك إلى "عدم توفر بيئة العمل الصحية وعدم امتلاك العراق الأسس المناسبة للاستثمار، إلى جانب تقلبات رؤى الجهات المعنية بإدارة ملف الغاز نتيجة ارتباطها بجوانب سياسية، بالإضافة إلى التقلبات السريعة والمستمرة في الحكومات التي تفتقر للاستقرار في قراراتها، وهذا ما يمثل عائقا أمام خلق البيئة المناسبة لاستمرارية النشاط الاستثماري للشركات المتعاقد معها، وهو ما يصعب وضع خطط وبرامج تنموية مستدامة تخدم أنشطة وعمليات الاستثمار في الغاز بشكل جدي".
وتشير إلى أن "العراق وفق المؤشرات الحالية ومع بطئ التقدم في النشاط الموجه لاستثمار الغاز الطبيعي، فإنه ربما سيحتاج إلى ضعف الفترة المقررة ليتمكن من تحقيق مستوى من الإنتاج يتوافق مع حاجته الفعلية من الغاز، خاصة وأن جهود الاستثمار خلال جولات التراخيص من 2011- 2023 لم تكن بالمستوى المطلوب، فالعراق يفقد نصف كمية الإنتاج السنوي نتيجة الحرق، حيث يبلغ الإنتاج السنوي للعراق ثلاثة مليارات متر مكعب، أما حاجته الفعلية لاستهلاك الغاز فتصل إلى 40 مليون متر مكعب يوميا".
وتخلص عبد القادر، إلى أنه "يترتب على حرق الغاز المصاحب آثار سلبية عديدة على مجمل الاقتصاد، وبحسب تقارير البنك المركزي ووزارة النفط فإن العراق أنفق ما يقارب 20 مليار دولار منذ العام 2017 على استيراد الغاز الطبيعي من إيران، وهذا المبلغ كبير نسبيا مقارنة بحاجة موازنة البلد لهذا المبلغ لتغطية متطلبات الإنفاق العام، ومن الممكن أن تتزايد كمية الغاز المستثمر لتؤمن بذلك 65 بالمئة من الحاجة المحلية للغاز في ظل استثمار حقلي عكاز والمنصورية لما سيساهم ذلك في توليد المزيد من الطاقة الكهربائية".
وتنتشر حقول الغاز المصاحب والطبيعي في معظم المحافظات النفطية العراقية، بواقع 70 بالمائة في حقول البصرة (مجنون، حلفاية والرميلة)، 10 بالمائة في حقول كركوك، 20 بالمائة في المناطق الشمالية والغربية في البلاد.
جدير بالذكر أن الحكومة الحالية والحكومات السابقة أبرمت العديد من الاتفاقيات، منها مع فرنسا ومصر والأردن، بالإضافة إلى الربط الكهربائي الخليجي ومشاريع الطاقة الشمسية، إلى جانب شركات كبرى لاستثمار الغاز العراقي وإنشاء خطوط ربط كهربائي، لكن أغلب هذه الاتفاقيات لم تطبق على أرض الواقع.
من جانبه، يلفت الخبير في الطاقة كوفند شيرواني، إلى أن "ملف الكهرباء فيه تقصير وإهمال وفساد واضح لم ينكره رؤساء الحكومات الحالية ولا السابقات، وأن مشاريع وعقود استثمار الغاز كان من المفترض أن يحصل فيها تقدم بالتوازي مع مشاريع إنشاء محطات كهرباء جديدة أو حتى تحوير المحطات السابقة لتعمل بالغاز الطبيعي".
ويبين أن "العراق يمتلك احتياطيات ضخمة من الغاز الطبيعي تتجاوز 132 تريليون متر مكعب ما يجعله في المرتبة الثانية عشر عالميا، ولكن يوجد تأخر كبير في استثمار هذا الغاز الذي يعد الوقود الأفضل لمحطات الطاقة والذي يسد جزء كبيرا من العجز في الطاقة الكهربائية".
ويشدد على أن "الغاز الطبيعي هو الوقود الأكثر كفاءة والأقل تلوثا للبيئة، لكن مع كل ذلك ما يزال في العراق عجز ونقص في تزويد الطاقة الكهربائية حيث أنها في أحسن الأحوال حاليا لا تتجاوز 25 ألف ميغاواط، في حين الحاجة الفعلية تتجاوز الـ35 ألف ميغاواط، ما يعني هناك عجزا بـ10 آلاف ميغاواط".
ويرى شيرواني، أن "هذا العجز لم يقل خلال السنوات السابقة بسبب التقصير والإهمال والفساد، إلى جانب التدخلات السياسية فيه وربما هناك أجندات خارجية تريد أن يبقى العراق بهذا الوضع ليستمر باستيراد الغاز رغم كل الإمكانيات الكبيرة التي يمتلكها".
ويختم حديثه، بأن "تحقيق النجاح في هذا الموضوع يحتاج إلى تخطيط إستراتيجي لإنشاء محطات جديدة عوضا عن صرف المليارات على التأهيل والإصلاح لزيادة طاقة المحطات القديمة التي أغلبها تقادمت ولا تتوافق مع التكنولوجيا الحديثة".
ووفقا لتقرير البنك الدولي عن حرق الغاز، جاءت روسيا والعراق وإيران والولايات المتحدة وفنزويلا والجزائر ونيجيريا، في مقدمة الدولة المسؤولة عن معظم عمليات حرق الغاز خلال السنوات العشر الماضية، وفي السنوات الأخيرة، زادت كلا من المكسيك وليبيا والصين من حرق الغاز أيضا، وتنتج هذه الدول العشر مجتمعة، نصف كمية النفط في العالم وهي مسؤولة عن 75 بالمئة من عمليات حرق الغاز.
جدير بالذكر، أن خبراء في الطاقة أكدوا خلال تقارير سابقة، أن التأخر بحسم ملف استثمار الغاز يعود لأسباب "سياسية" وتدخلات خارجية، وليس فنيا، وهو ما أكده مسؤول في وزارة النفط أيضا.
المصدر: صحيفة العالم الجديد
أقرأ ايضاً
- "بحر النجف" يحتضر.. قلة الأمطار وغياب الآبار التدفقية يحاصرانه (صور)
- في حي البلديات ببغداد: تجاوزات ومعاناة من الكهرباء والمجاري ومعامل تلحق الضرر بصحة الناس (صور)
- حل "ترقيعي".. خطة الداخلية لشراء الأسلحة تُنعش "سوق مريدي" ولن تجمع 2٪