- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الإعداد الروحي.. الجفاف الروحي بين الأسباب والمعالجات - الجزء الثاني
بقلم: الشيخ محمود الحلي الخفاجي
يقول أصحاب علم الكلام: إن كل حادث يحتاج إلى مُحدث, وكل مُمكن الوجود يحتاج الى علة لتأتي به الى حيز الوجود وتلبسه ثوب التحقق في عالم الواقع والإمكان. إذن الممكنات كلها بحاجة الى علة مُوجدة ومنها تلك العوارض التي تعرض على الإنسان سواء أكانت تكوينية أم معنوية ، بعبارة أخرى سواء ما يصيب بدن الأنسان أو الأشياء المادية التي تحيط بوجوده المادي، أو معنوية, وأعني الأشياء الباطنية التي تصيب باطن الأنسان وروحه .
فالإنسان الذي يحصل لديه اختلال في الجوانب المعنوية ورجحان الجوانب المادية في حياته تحدث لديه حالة من الإنحراف والإنتكاس الروحي وهذا الإنتكاس الروحي له أسباب منها:
ـ الأول:
إنتشار ثقافة الإستهلاك المادي بشكل مرعب, فالجميع يلهث خلف سراب الدنيا ومغرياتها والجميع قد فتنته زخارف الدنيا. فأصبح الجميع همه هو السعي لزيادة رصيده المادي بأي شكل من الأشكال وانتشار ثقافة تأمين المستقبل مادياً حتى أن الدراسة أصبحت في عصر الغرائز والشهوات هي لغرض الحصول على شهادة دراسية لتأمين المستقبل مادياً مع غض النظر عن قيمة العلم وتحصيل المعرفة وخدمة المجتمعات.
ـ الثاني:
إقصاء الدين عن مظاهر الحياة الإجتماعية والسلوكية والمعاملات التي يجريها الإنسان حيث اصبحت مظاهر حياتنا مادية بحتة, بعد ان اضعنا الجوانب المعنوية وفقدناها، على الأقل هي ثانوية في حياتنا بل حتى أن بعض المتدينين تولدت عندهم نظرية هي قصر الدين في أماكنه الخاصة ومناسباته الخاصة كالمساجد, وشهر رمضان والأعياد وزيارة مشاهد الأئمة المعصومين(عليهم السلام) وإحياء مناسبات ولاداتهم ووفياتهم (عليهم السلام)، أما في ساحات العمل وبقية حقول الحياة أبتداء من البيت والمدرسة والمؤسسة والمتجر وأليات العمل والجامعة.. هذة كلها لا مكان لها في الدين. أي أن الدين ليس له وجود فيها كأحكام فقهية واعمال وفق الضوابط الشرعية وعقائد صحيحة, وغيرها كلها أصبحت مغيبة في قواميس الحياة الجديدة٠هذه شكلت حائلاً دون تغدية روح الإنسان بالقيم المعنوية ٠
ـ الثالث:
الإنغماس في ملذات الدنيا ولهوها, حيث أن لهذا العامل أثر كبير وله تأثير كبير على حياة الأنسان, وأدخله في دائرة لهو الدنيا فأصبحت همم الناس هو جمع المال وحب السلطة وحب الجاه, وكذلك ما ألقته التقنية الحديثة كوسائل الاتصال والشبكة العنكبوتية وعالم الألكترونيات. هذة كلها تسببت في أسر الناس وتدمير قيمهم ومعنوياتهم الروحية بل حلت محل المسجد وتلاوة القرآن وكل القيم المعنوية الأخرى.
ـ الرابع:
المعاصي والذنوب. أن التدهور الروحي مرض يعرض على قلب الانسان وروحه, وهذا المرض والنكوص الروحي له مسببات وأولها المعاصي والذنوب, اذ كي تحصل عافية الروح وتتحقق فلابد من إزالة واستئصال مسببات هذا المرض حيث الذنوب تعمل على إحداث انتكاسة كبيرة في قلب الإنسان, وهذه الإنتكاسة أشار إليها الامام الصادق عليه السلام بقوله: (إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء فإن تاب انمحت وإن زاد زادت حتى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها أبدا). إذن الذنوب تؤثر في قلب الإنسان وروحه، و كلما كثرت ذنوب الإنسان وتمادى الإنسان في كثرة هذه الذنوب والمعاصي كلما ازدادت خطورتها مع طول عمر الانسان فيتحول تدريجيا مع هذه الكثرة وهذا الإزدياد المضطرد، فإنه سيتحول الى قطعه سوداء: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ). وقد جاء في دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام: (ويلي كلما طال عمري كثرت خطاياي، أما آن لي أن استحي من ربي؟). إذن الذنوب تكون معبراً وجسراً للشيطان للدخول الى نفس الإنسان فيحدث فيها ذلك الخراب ويعشعش فيها والعياذ بالله تعالى٠
ـ الخامس:
الكسب الحرام. إن لكسب الحرام انعكاسات خطيرة على روح الانسان وشقاوته ، حيث الإنسان كما بينا سابقاً مركب من روح وجسد ومن الواضح جداً أنه يتأثر بالأشياء الخارجية التي تعرض على بدنه كتناول السم مثلاً أو تناوله للطعام الفاسد حيث أنهما سيؤديان الى إحداث أعراض في بدنه، وكذلك هنالك أعراض تعرض على روحه بسبب لقمة الحرام, أو هذا الكسب الحرام وأهم هذه الآثار التي تؤثر على روحه وقلبه والناتجة منه هو: عدم التوفيق لإتيان الطاعات. فإن لقمة الحرام تبطأ بالإنسان للإقدام على الطاعة وفي الطرف المقابل أنها تدفع به لارتكاب الحرام كذلك، اذن روح الإنسان تتعرض الى مؤثرات تعرض عليها كالذنوب والكسب الحرام, وبالتالي تشكل حجاباً بين الإنسان وبين الله وتضعف الجوانب المعنوية عنده فيكون سهل الإختراق من قبل الشيطان, ويكون مرتعاً له وللإنحرافات العقائدية الباطلة والأفكار الضالة ٠
ـ السادس:
الغفلة. وهي أحد الرذائل التي تحط بالإنسان وتجبره الى الإنحدار والإنحراف: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ). فغفلتنا عن الله تعالي تزيد في انتكاسة الروح وظلمتها وبالتالي تكون منفذاً لوسوسة الشيطان, بل إن الغفلة سبب من أسباب الضلالة كما صرح بذلك القران الكريم (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) وإن الغفلة عن ذكر الله وأمتثال الحق تسبب الإطمئنان للدنيا وتكون نفس الإنسان بين أمرين وهما:
ـ الأول: الإنقياد والطاعة لله
ـ والثاني: هو الدنيا والاطمئنان اليها
فاذا غفلنا ونسينا الله فأننا سنقع في خطر الاطمئنان للدنيا قال تعالى: (إِنَّ ٱلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُواْ بِٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَٱطْمَأَنُّواْ بِهَا وَٱلَّذِينَ هُمْ عَنْ ءَايَٰتِنَا غَٰفِلُونَ) فالغفلة هي كدورات وأوساخ تطرء على قلب الإنسان وروحه, وقد ورد في المناجاة الشعبانية (فشكرتك بادخالى في كرمك ولتطهير قلبي من أوساخ الغفلة عنك). إذ الغفلة عن الله تعالى في حقيقتها هي أوساخ وهذه الأوساخ أكثر ضرراً من الأوساخ المادية التي تكون على بدن الإنسان لأن أوساخ البدن تذهب وتزول لكن أوساخ القلب والروح تؤثر في شقاء الإنسان وتبقى معه و تصاحبه الى يوم الآخرة لأنها تكون سبباً للأعراض عن الله عز وجل، قال تعالى: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ). لذا يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (من غلبت عليه الغفلة مات قلبه) في دعاء مكارم الاخلاق للإمام زين العابدين (عليه السلام): (ونبهني لذكرك في أوقات الغفلة عنك) إذن علينا أن نحذر من مجالس الغفلة حيث يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): (بمجالس أهل الغفلة ينسى القران ويحضر الشيطان)٠ فالغفلة لها دور كبير في انتكاسة روح الإنسان وقلبه ٠وعليه لابد من الحذر من غفلة أنفسنا وننبهها من تلك الغفلات المردية (اللهم نبهنا من نومة الغافلين)٠
ـ السابع:
وجود الإنسان في أجواء يضعف فيها الجانب الروحي والمعنوي. حيث أن الضد لا يصارعه إلا الضد, فمن يعيش في أجواء مملوءة بالتحلل والإنفلات الأخلاقي وأجواء كلها رذائل وموبقات, وأجواء مستنقع للمعاصي, كمجالس الفسق مثلاً أو التصفح في مواقع إباحية في التواصل الإجتماعي أو مشاهد أفلام خلاعية او مفاكهة ومجالسة النساء المتبرجات, ومبتذلات لا يراعين العفة والحجاب الشرعي, هذه اجواء وبيئات كلها تشكل منطلقات لأضعاف الجانب الروحي عند الإنسان قال تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ). في مثل هذه الأجواء لابد على الإنسان المؤمن أن يتجنبها ولا يكون ضحية سهلة الوقوع في أفخاخها المدمرة لروح الإنسان وإضعاف معنوياته وطهارة قلبه.
ـ الثامن:
مجالس البطالين. إن من الأمور المهمة التي تحتاج الى مراقبة الإنسان لها هي المواطن التي تجر الإنسان الى الغفلة عن ذكر الله عز وجل فالإنسان الذي يحضر في المساجد تتحقق فيها الطاعة لله ورضا الله عز وجل, وينظر الله لها عز وجل بعين الرحمة واللطف، وهنالك مجالس ينظر الله لها عز وجل نظرة ماقتة و تلعنها الملائكة وفيها مقتضيات البعد عن رحمة الله ولطفه وهي مجالس البطالين كمجالس الغيبة والهتان والرياء والإستهزاء, وقد بين الإمام زين العابدين عليه السلام في دعاء أبي حمزه الثمالي: (لَعَلَّكَ رَاَيْتَني فِى الْغافِلينَ؛ فَمِنْ رَحْمَتِكَ آيَسْتَني.. اَوْ لَعَلَّكَ رَاَيْتَني آلفَ مَجالِسِ الْبَطّالينَ؛ فَبَيْني وَبَيْنَهُمْ خَلَّيْتَني) الإمام هنا (ع) يبين أن موجبات الطرد من رحمة هو مؤالفة هذه المجالس, وهي مجالس تحدث ظلمة في روح الإنسان وتعطبها وقد نهى القران عن اختيار تلك المجالس في قوله تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) وهي تلك المجالس التي ورد النهي عنها مجالس أولائك الذين تركوا العمل المعيشي, لا لعلة بل مع قدرتهم على العمل لكنهم تقاعسوا عن ذلك وآثروا الراحة على الكسب والعمل, فهذه الفئة تقوم بممارسات محرمة كالغيبة وكلام الفحش وممارسة الألعاب المحرمة كالدومنة والطاولي ولعب القمار..... وغيرها.
إن الجلوس في تلك المجالس قد يورط صاحبها في الخوض بأحاديث الكذب والنفاق واستماع الأغاني ومشاهدة الأفلام التي تجانب العفة وتخدش بالحياء والذوق الأخلاقي للمجتمع الإسلامي، والإضرار ما فيها, أنها تصنع بيئة فساد جديدة للمرتاد فيها ألا وهي بيئة أصدقاء السوء والفسق.
وقد نهى القران عن حضور هذه المجالس (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) إذن مجالس السوء و مجالس البطالين التي لها دور في ظلمة النفس وبإحداث الجفاف الروحي في نفس الإنسان، هذه جملة من الأسباب التي تضعف إيمان الإنسان وبالتالي تدفع به إلى الإنحراف لا سمح الله تعالى٠ نسال الله تعالى ان يحفظنا وجميع المؤمنين من خطر الأهواء ويقينا من مزالق الشيطان ويجنبنا معاصيه إنه أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
أقرأ ايضاً
- ماذا بعد لبنان / الجزء الأخير
- التكتيكات الإيرانيّة تُربِك منظومة الدفاعات الصهيو-أميركيّة
- مراقبة المكالمات في الأجهزة النقالة بين حماية الأمن الشخصي والضرورة الإجرائية - الجزء الأول