- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الإعداد الروحي.. التعبئة الروحية وكيفية اكتسابها - الجزء الاول
بقلم: الشيخ محمود الحلي الخفاجي
الإنسان بطبيعته التكوينية خلقه الله تعالى ليعيش بين ثلاث:
- الشهوات والغرائز
- وبين نفسه الأمارة بالسوء
- وبين وسوسة الشيطان
فهو يعيش بين ضغوطات هذا المثلث الرهيب. إذن الإنسان يحتاج إلى طاقة معنوية لمواجهة أطراف هذا المثلث، لكي لا ينتكس أو يتراجع إزاء إغراءات الشهوات وتزين النفس ووسوسة الشيطان. وهذه الطاقة التي نحتاج إليها ونتزود منها لا تحصل اعتباطاً، بل لابد من تهيئة النفس لاستقبال العطاء الإلهي وفيوضات الرحمة الإلهية وهي التي نواجه بها هذه الضغوط الثلاث، والتهيئة لا تحصل إلا بأيجاد بعض الأعمال التي تحصن النفس لوقف الزيغ والإنحراف، وهذا يحصل من خلال الإرتباط بالله عز وجل وهو ما نستطيع أن نصطلح عليه بالتعبة الروحية، وهي مجموعة من الأعمال التي ندبت إليها الشريعة والتي تحصن الإنسان وتقوي الجوانب الروحية والمعنوية لديه.
وذلك لأن طبيعة الإنسان هي طبيعة تثاقلية (أثاقلتم إلى الأرض). فطبيعة النفس كطبيعة جسم الإنسان الذي يخضع الى مجموعة من القوانين ومنها قانون الجاذبية الذي تأخذ به إلى الأرض، فأن الأرض تميل به إلى التسافل وهي إشارة إلى عبودية الهوى والشهوات لا عبودية الله عزوجل.
إذن الانسان يحتاج إلى إمساكه من نفسه وشده إلى الأعلى وهذا لا يحصل إلا بتشريع العبادات وارتباطه بها سواء كانت واجبات أم مستحبات٠
من هذا المنطلق فالإنسان يعيش في حالة صراع دائم بين قوى ثلاث: (النفس الإمارة بالسوء ووسوسة الشيطان واغراءات الدنيا) فجاءت التعاليم الإلهية (التكاليف الشرعية والنواهي والإرشادات الاخلاقية والعقائدية ) لتروض هذه القوى (الثلاث) وضبطها بل واخضاعها إلى دائرة الشرع المقدس والموازين الشرعية والعقلية، لأن انفلاتها واعطاءها زمامها وبلا قيود سوف يحدث حالة تخريبية في نفس الإنسان وعلى سلوكه وأخلاقه فتأخذ به نحو الزيغ والإنحراف.
إذن التعاليم الإلهية جاءت لأحداث توازن بين هذه القوى وبين ما يريده الشرع، وبينت أن نجاح الإنسان وفلاحه هو بإخضاع هذه القوى الثلاث الى دائرة الدين والعقل: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا). فيقوم الدين بعملية تغييرية في نفس الإنسان وهي تهذيب وتوجيه وتربية هذه النفس وبحسب المصطلح القرآني (التزكية). فإذا هذب الإنسان نفسه فأنها ستكون مهيئة لانطلاقة أساسية لتغير حياته وسلوكه.
حيث ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: (ميدانكم الأول أنفسكم, فأن أنتصرتم عليها كنتم على غيرها أقدر, وأن خذلتم فيها كنتم على غيرها أعجز).
وما ورد عن الأمام زين العابدين عليه السلام: (الخير كله صيانة الإنسان نفسه). فصيانة النفس عن الهوى ومزالق الشيطان فيه كل الخير والألف واللام هنا (الخير) دالة على العموم.
وأيضاً ما ورد عنه عليه السلام: (ابن آدم لا تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك، وما كانت المحاسبة من همك، وما كان الخوف لك شعاراً والحذر لك دثاراً).
إذن الطريق الأول لنيل الكمالات المعنوية هو نزكيه النفس ومراقبتها بعدم ارتكاب المعصية وهذا ما يصطلح عليه التقوى فيقول أمير المؤمنين عليه السلام: (وَإِنَّمَا هِيَ نَفْسِي أَرُوضُهَا بِالتَّقْوَى لِتَأْتِيَ آمِنَةً يَوْمَ الْخَوْفِ الْأَكْبَرِ )٠
إن (المادة) و(الروح) هما العنصران اللذان يشتركان في تكوين الأنسان، وأن ترجيح أي طرف منها على حساب الآخر يؤدي الى نتائج معكوسة وأحداث خلل في التوازن المطلوب. من هنا سعى الإسلام في نظرته الى بناء الأنسان بناءاً سليماً وجعله بالتالي إنساناً مستقيماً هو الإهتمام بالعمل على إيجاد عملية توازنية فيما بين جوانب التربية الروحية وبين الجانب المادي. فأنه لو رجح الجانب المادي للإنسان فأن ذلك يعني طغيان هذا الجانب وآثاره السيئة على حياة الإنسان وإعدامه للجوانب المعنوية والروحية، وأن ذلك يهبط بالإنسان الى مستوى البهائم أو أضل سبيلاً كما صرح القران الكريم بذلك.
إذن لابد من هذا التوازن كي لا تطغى قبضة الطين على نفخة الروح، ولا نفخة الروح على قبضة الطين، حيث أن الله تعالى خلقه مزيجاً من كليهما وأراده تعالى أن يعيش بكليهما معاً في الحياة، وهذا التوازن يحتاج الى مجاهدة النفس لأن النفس بطبيعتها ميالة الى شهوات الحياة المادية ويحتاج أيضاً الى الرياضات الروحية التي تنتشله من علائق المادة والشهوات والغرائز. وهذا التوازن لا يحصل جزافاً وليس هو بالأمر السهل بل هو في حقيقته اختبار عسير وصراع مرير فأيهما يقدم شهواته وغرائزه وهواه؟ أو ما يتطلبه دينه وقيمه وعقله؟.
لذا فإن الدين بما هو مجموعة قيود وهذه القيود التي يضعها على المكلفين من أجل ضبط هذه الغرائز، وأن اتباعها يكون بصورة قد رسمت لها الطرق المهمة كما ورد في الروايات ( أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك).
وفي عصرنا أن الحضارة المادية طغت على كل شيء والتي ركزت على كل ما هو مادي محسوس وتجاهلت كل ما هو قيمي وما هو معنوي و روحي، وألغته من قواميس السلوك اليومي لحياة الإنسان وثقافته، بل أجادت السباحة في بحر الشهوات والغرائز الحيوانية بعنوان التحضر والثقافة والتقدم والعولمة, وهذه هي قيم وركائز الفلسفة المادية, أما في أيديولوجية التربية الإسلامية ونظرته الى الكون والإنسان تقوم على أساس تنمية الجانب الروحي والمعنوي، وإشاعة القيم الأخلاقية وجعلها في حالة توازن بينها وبين الجوانب المادية، اي أنها لم تلغ الجانب المادي من حياته، بل شذبتها ودأبت على توجيهها وترشيدها بشكل صحيح وسليم: (وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا ).
هذا هو الأساس التي تقوم عليه نظرة الإسلام في إيجاد موازنة بين عالم الدنيا وعالم الآخرة. وبهذا الأسلوب التربوي يكون سبباً في نجاح الإنسان وسعادته في وسط بحر الغرائز والشهوات، فجعلت من الإيمان بالله تعالى القاعدة الواسعة والكبيرة والتي تشكل محور أساس لأهتمامات الأنسان فكرياً وعقائدياً وسلوكياً ... وهذه القاعدة في حقيقتها تكون حائلاً ومصداً يمنع ويحجز الإنسان من محاولات التصحر والجفاف الروحي التي تقف عائقاً في طريق الانسان وكماله المعنوي والروحي, وهنا نشير الى مظاهر تحف بالإنسان فيما لو ابتعد عن منابع الفطرة السليمة (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) حيث أن لمشكلة الجفاف الروحي مظاهر تظهر بشكل سلوكيات واضحة في حياة الفرد والجماعة، وهذه سمة عامه في كل مجتمع يبتعد عن الجوانب الروحية أو يصاب بمرض الجفاف الروحي فمن هذه المظاهر:
1- اللامبالاة بالقيم المعنوية وإلغاء كل مقدس ومحترم وأنه ليس عند هؤلاء منطقة محرمة في حياتهم بل كل شيء عندهم مباح وبلا قيود .
2- إنتهاك المحرمات الدينية، وهذه ظاهرة خطيرة جداً بحيث تحول المنظومة العقائدية والأخلاقية الى منظومة فارغة، في مثل هكذا مجتمع وأمة قد يصابون بمرض الجفاف الروحي، و هذا العمل بمثابة الطلقة المميتة التي توجه اليهم وتحولهم الى ركام مادي و مميتة له وحياته هامدة عبارة عن ركام مادي وأشار الى ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: (كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ).