بقلم: إسماعيل نوري الربيعي
كان لظهور الأزمات المالية و التراجع على مستوى الأداء الاقتصادي، الذي ساد العالم في منتصف تسعينات القرن العشرين، دوره البالغ في التطلع نحو النهل من آلية منهجية الحوكمة. تلك التي انصبت جهودها في التركيز على المجال الاقتصادي و من هذا تسيد مصطلح (حوكمة الشركات Corporate Governance)، حيث القواعد الحاكمة للشركات، الساعية نحو تفعيل النمو الاقتصادي للمؤسسة وزيادة ثقة المستثمرين، من خلال جملة من الفعاليات الرئيسة والتي تتمثل في؛ اعتماد مبدأ المشاركة بين مجلس الإدارة والهيكل الإداري الذي تتكون منه، و السعي نحو بناء الخطط وأهداف والرؤى والتصورات، انطلاقا من روح الفريق الواحد، عبر تنشيط وسائل الرقابة والمتابعة والمساءلة، والعمل على حماية المساهم والمستثمر وضمان حقوقه، من خلال اعتماد مبدا الشفافية، والتطلع نحو تسهيل عمليات الاستثمار والتمويل بناء على خلق مناخ استثماري يقوم على المرونة والتفاعل مع المتغيرات التي يفرضها سوق العمل وتحولاته وتحدياته.
ومن هذا الواقع يكون التوجه نحو زيادة دور الشركة في خلق البيئة الاستثمارية التي تعزز من توطين دور الرأسمال الوطني، وتساهم في جذب الرأسمال الأجنبي، وتعمل للحد من تأثير المخاطر و المفاجئات المالية والاقتصادية، من خلال التركيز على دراسة العوامل التي تساهم في ترصد مجال الخلل وتشخيص مستوى المخاطر، والعمل على قراءة العلاقات بموضوعية و دقة، بغية التوجه نحو مواجهتها والحرص على تجنبها.
إنها المنهجية المتطلعة نحو خلق مستوى من المساواة والتوافق، و السعي نحو اختصار الجهود والأموال، والاستفادة من التفاعل مع المجتمع الدولي من خلال الخضوع للمعايير التي تحددها المنظمات الدولية، مع الحرص على الاستقلالية وتجنب التدخل في شؤونها، فلا معيار سوى الكفاءة والفاعلية، تلك التي تقوم على جهاز رقابي دقيق ومستقل يعمل بقوام الشفافية و المحاسبة، حيث المسعى نحو الحفاظ على مصالح الهيكل الإداري للمؤسسة والمساهمين والمستثمرين، و خضوع مجلس الإدارة والهيئات التنفيذية للرقابة، واعتماد الخطط المستقبلية والاستراتيجية، تلك التي يتم من خلالها تحديد اللأولويات وطريقة التعاطي مع الموارد المتاحة والوقوف على تصور واضح لما يأتي به المستقبل.
إنه النظام الذي يحدد مستوى العلاقات بين مختلف الجهات، والمستند إلى تحديد المسؤولية، سعيا إلى دعم و ترصين مستقبل المؤسسة. وبما يتوافق وتجليات العلاقات التي تفرزها، أحوال التوجه نحو تطبيقات النظام الرأسمالي. حيث الاعتماد على النشاط الخاص و حرية انتقال رأس المال والمنافسة واقتصاديات السوق. و تأثيرات العولمة والاندماج في التعرفة الجمركية، وانتقال رأس المال والدفق العالي و النشيط للشركات العابرة للقومية، حيث التمايز الذي بات يتوضح بشكل واصح و كبير بين ملكية المؤسسة و إدارتها. و ما نجم عنه من ضعف في مهمة الرقابة على الإدارة، لتتوالى الأزمات المالية، تلك التي ارتبط أغلبها بقضايا الفساد. والتي انطلقت شرارتها في منظمومة دول النمور الآسيوية في أواخر تسعينات القرن العشرين. إنه المسعى نحو التوفير ومن هذا برز الاتجاه نحو الاستثمار في أسواق المال وتجنب الانخراط في الاعتماد على التمويل المصرفي، الذي يستلزم الفوائد الكبيرة والتقييدات الإدارية، التي تصل حد التدخل في صناعة القرار.
الحوكمة فعالية تقوم على ترشيد السلطة، من خلال اخضاعها لمبدأ العدالة، هذه الأخيرة التي لا يمكن لها أتقوم من دون الخضوع لسلطة القانون الذي يحدد الحقوق والواجبات. ليصار إلى البحث عن المعيار المقبول الذي يتم من خلاله، حماية الهيكل العام (ملاكا، و مساهمين، و إداريين و على مختلف المستويات؛ العيا والدنيا) ، عبر تقديم مبدأ المشاركة في صناعة القرار، وتقليص نفوذ وهيمنة بعض الأطراف على حساب الهيكل العام الذي تؤلفه المؤسسة. إنها التفعيل لمسارات التنمية المستدامة، من خلال تشجيع الاستثمار و تنمية رأس المال، وخلق فرص العمل. والتأكيد على المراجعة و المحاسبة والرقابة (25)، تلك التي يتم حضورها من خلال اعتمادها من خارج الهيكل الإداري، بغية الوقوف على جهاز رقابي مستقل.
و على الرغم من استناد الحوكمة إلى جملة من الأركان التي تميز بنيتها العامة، وتمييز هيكليتها. إلا أن نقاط الشروع بتطبيقاتها تبقى رهنا بالبيئة الحاضنة لها. لا سيما على صعيد وجود القوانين التي تنظم عمل الشركات والاحتكار و المنافسة و سوق المال، وحجم و قدرة البنوك وسوق المال على الحضور والتأثير، و أهمية السوق والإنتاج والجهاز الرقابي القادر على أداء دوره بحرية واستقلالية. وتوافر الكفاءات المحلية القارة على إدارة تفعيل القوانين في صلب بيئة العمل، تلك التي تتمثل في قطاع المحاسبين و المحامين والمستشارين الماليين و خبراء التأمين. إنها الموجهات التي تنظم عمل الحوكمة بناء على الفهم العميق للقوانين من دون خلق التداخل بين العام والخاص. فيما تتبدى أهمية التطبيق إنطلاقا من طريقة صناعة القرار داخل المؤسسة ، والتي تقوم على أهمية توافق جميع الأطراف على الهدف الرئيس، والسعي نحو تحجيم التناقض في الصلاحيات داخل المؤسسة، خصوصا و أن التوجه الرئيس يقوم على دعم القطاع الخاص وتنمية دوره، عبر البحث عن تعزيز قدراته التنافسية و الحصول على الأرباح، وتفعيل مسار الاستثمار، وحماية حقوق الملاك و تنويع مصادر التمويل و توفير فرص العمل.
أقرأ ايضاً
- أزمة منصب رئيس السلطة التشريعية في بوصلة المرجعية
- ديمقراطية أحزاب السلطة.. نحن أو الفوضى !
- الانقلابات في العراق ليست فقط استيلاءً على السلطة