بقلم: عبد المنعم الأعسم
مسموعات الكواليس السياسية تشير الى محاولات ومساعٍ استثنائية لمعافاة العلاقات بين الزعامات السياسية، المتنافرة وفاقدة الثقة ببعضها، بدخول طرف اقليمي يُصنّف كصديق للجميع على الخط، هذه المرة، وذلك للتقريب بين وجهات النظر وبين "وجهات المصالح" وتأليف القلوب التي تحمل على بعضها، ونُقل عن مقرب من الطرف الاقليمي قوله انه لا وجود للعداوة الحقيقية بين الساسة العراقيين، وبخاصة في "البيت الشيعي" منهم، وحين سُئل "اذن ما الذي بينهم؟" قال "خنادق!" وبحسب تلك المنقولات فان "المبادرة" التصالحية بدأت بحذر وعبر وسائل غير تقليدية، لكنها (مثل سابقاتها) اعتمدت زاوية الدخول الى التسوية عن طريق بوس اللحى ومجاملات الكلام إذْ يحتفظ اصحاب الازمة السياسية بثروة غنية منها.. باعتبار "ان الجميع اخوان" وإن كانت تفرقهم الخنادق.
ومن الطبيعي ان يتوقع المراقب نتائج محدودة ومتواضعة لهذه الجهود طالما انطلقت من الرؤيا الخاطئة للازمة السياسية باعتبارها ازمة علاقات، او "سوء فهم" بين اللاعبين، وانه يمكن احتواؤها عن طريق ترشيد هذه العلاقات، او من خلال رفع اشواك سوء الظن التي نبتت في هواجس السياسيين الذين يتولون ادارة اللعب والملعب إزاء بعضهم، لكن الجديد المتداول في سياق الحلول والتسويات والمشاريع والمبادرات القول "ليأخذوا ما شاءوا من الثروات والمنهوبات، وليخلدوا الى الراحة، بعيدا عن المساءلة، عساهم يشبعون" دون ان يتأمل اصحاب هذا الفقه الابوي التأثير الكارثي لهذه التدبيرات في الاجيال العراقية القادمة التي ستفزع حين تتعرف اليها والى العقول الرثة التي تقف وراءها.
ولا يمكن، طبعاً، نكران وجود خندقة سياسية ضربت العمل السياسي بعد الاحتلال وسقوط الدكتاتورية، وقد عبرت عن انتشار الانانيات الضيقة في صفوف القيادات لجهة المصالح والثروات والامبراطوريات االمالية والعقارية، وشراسة التكالب على المواقع والوظائف العليا وبخاصة ما تعلق منها بثراء وميزانيات هذه المواقع وتعمقت (الخندقة) خلال اختزال الشراكة في ادارة المرحلة، ومبادئ التوافق السياسي، الى محاصصة مقيتة بحيث لم يعد للمواطن الكفء والمهني فرصة وصاحب اليد البيضاء ان يأخذ مكانه في هياكل الادارات، والمناصب الحساسة.
على ان التخندق في تجربتنا السياسية توصيف مخفف لصراع المصالح الذي يتخذ شكلا طائفيا او قوميا اوفئويا خادعا، فهو بالمعنى الخلدوني شكل من أشكال النعرة العصبية البدوية الثأرية، وفي المنظور محمد عابد الجابري ناتجٌ عن البربرية الاستبدادية التي تتخذ احيانا من الديمقراطية، التي لا تتخلق بها، هوية لها، فيما يعيد المنظور الفرويدوي الازمة السياسية والاجتماعية والثقافية، وكل ارهاصات الافراد والمجتمعات، الى الشراهة الجنسية التي تعبر عن نفسها في سلوك مضطرب غير منضبطٍ، وثمة من يشير بهذا الصدد الى ان الشراهة إحدى طباع اسوأ الحشرات.
استدراك:
"يالها من متعة مضاعفة عندما تخدع المخادع".
ميكافيللي