حجم النص
بقلم: د. احمد العلياوي
مررتُ بالسيارة في منطقتنا، التي نشأتُ بها في الكوفة، وكان أن رأيتُ رجلاً كبير السن، وهو يحاول العبور للجهة الأخرى متردداً في الليل.
خففتُ القياد، وجئتُ من قربه، فعرفته، وهو يلبس ثوباً أسود اللون، وإن لم تختلف ملامحُ الرجل منذ أكثر من ثلاثين عاما.
الرجل رفيقٌ حزبي نشيط، لم يبارح البدلة الزيتونية، إلا بعد سقوط النظام، إذ توراى عن الأنظار مدةً، وراح يخرج متستِّراً بين حين وآخر، بلحيةٍ ممشطةٍ وكأنه فاضلٌ من فضلاء الحوزة العلمية !.
لمحتُ الرجل الذي كان يملأ الشارع صخباً، وهو يمرُّ وعلى كتفه بندقيته اللامعة، لنعلم عندها أننا في الإنذار الحزبي الذي لم يكن معلناً، إلا مع ظهور الرفاق من منازلهم وأفواههم مثل أفواه تنين جائع.
كان هذا الرفيقُ طالعَ شؤم، حين يراه الجيران، مقطبَ الوجه، بعينين ينثران الحقد، على كل الشباب الواقفين بأبواب البيوت، في أيام عاشوراء، فهو لايسلِّمُ على أحد ولايسلَمُ منه أحد.
في لحظة واحدة، تلاحقت صورُهُ الحزبية، وهو يفرض نفسه على منطقة كاملة، في موسم محرم وصفر، مارَّاً بالشوارع، قاصداً أداء مهمته، بقطع الطريق على الزائرين، الذين يمرون في طرق القرى البعيدة بين النخيل بحثاً عن كربلاء.
هذا الرفيق -الذي يلبس السواد- هو نفسه الذي كان يعاهدُ الحزبَ والرئيسَ على منع الزائرين، من الوصول إلى الحسين، حيث تُنصَبُ المسالحُ على الطريق، ويحشو الرفاقُ بنادقهم انتظاراً للحرب.
إنها الحربُ التي كانت حاضرةً بين الحزب بكل رفاقه، والزوار القادمين في الليالي، يسيرون على ضياء النيران المشتعلة بالقناني الزجاجية، التي يشعلُها المحبّون في طريق الحسين، إرشاداً للزائرين في طرقٍ غير معروفةٍ أو غير مؤمَّنة.
نظرتُ فعادت تلك الأسئلة القديمة، عن هؤلاء الذين كانوا يعتاشون على محاربة الشعائر الحسينية، تحت ذرائع شتى، حتى قضوا زمناً في اغتيال الخطباء، والشعراء، ومنع العزاء، ورفس قدور الطبخ، وسكب طعامها في الشوارع لأنها تهدد أمن الحكومة!.
كان الرفيق سعيداً، ببدلته الزيتونية، التي تكفلُ له انتماءً حزبياً، يمنحه القوة في القمع، وهو يخرج من بيته، ليسلِّط بندقيته على جيرانه، من دون خجل أو حياء، ذاهباً للتصارع مع الحسين، الذي كان -في إعلام الحكومة- جَدَّاً للرفيق القائد صدام حسين، ولكن الحفيد المناضل هو الذي يدجِّجُ المنظمات الحزبية بالسلاح لمنع الشعائر على جده في كل عام!.
لقد أرهق الحسينُ هؤلاء الرفاق، وهم يحملون فِراشهم وبنادقهم، ترَصُّداً لأي زائر، يراه الحاكمُ معارِضاً خفياً، حين يجيء أعزل اليد مسلَّحاً بالحُب لسيد الشهداء.
كان هذا الرفيق وبعض أشباهه، يخرجون من بيوتهم مساءً، ونساءُ الجوار يدخلن في بيوتهم، لإقامة عزاء الحسين، بإدارة زوجاتهم الحزينات على الحسين، وعلى سوء حظهنَّ وهنَّ يجدن أزواجهنَّ في معكسر أعداء الإمام بنسخةٍ معاصرة.
لا أعرف أين كان مقصد الرفيق، بثوبه الأسود، وهو يعبر الشارع، وكأنه يريد حضور مجلس عزاء، ليتبرك بعدها بوجبة عشاء، من التمن والقيمة، التي هي وريثةُ ذلك الطبخ المقلوب القدور، نكايةً بالطابخ والمطبوخ له، حتى صار الطبخ ممنوعا !.
تساءلتُ وأنا أخطو بالسيارة بضع خطوات، عن بدلة الرفيق، التي وجد في الثوب الأسود عوضاً عنها، فانقلب وراغ بين الناس مثل الدهان.
وتساءلتُ عن بندقيته، التي لم تظهر على كتفه منذ زمن، هل مازالت محفوظة مع البدلة في الخزانة، وهل سكن البارود فيها، أم أن البارود يغلي، كلما نظر لزائر، فتضطرب البندقيةُ الرفاقيةُ، بحثاً عن كتف الرفيق، وإن لم تجد، فإن كثيراً من القنوات والأصوات الزيتونية اليوم تؤدي عن الرفيق الحزين مهمته النضالية.
لاشك أن الرجل قد عبر للضفة الأخرى، ولكنه مازال عالقاً في ذاكرة الشوراع، التي كان يضربها بحذائه البُنيَّة، مثلما هي الجدرانُ، التي كانت تتمنى أن تحمل لافتة لعاشوراء، إلا أن الرفيق يرى في ذلك مخالفة لقرارات الحزب، الذي يعرفُ مصلحةَ الوطن ممثَّلةً بقطع الطريق إلى الحسين!.
أما الحسين، فهو الوحيدُ القادرُ على فضح المتناسلين، حرباً عليه، وهو يجرِّدُهم من ملابسهم، التي خرجوا بها لحربه، فيهربون منه شهيداً، بلباس الحزن الذي منعوه على الناس من قبل.