بقلم:حسين فرحان
ابتسامة صفراء تعكس حالة من الأحقاد المتوارثة التي أسست قواعدها يد جاهل يصطاد منطق الألسن فينتقي اللفظ تلو اللفظ يجعله محور طرفة ساخرة مريضة لا يتفاعل معها إلا من كان على شاكلته..
فلهجة الآخر تثير سخريته، وجنوبيته تثير حقده ومشاطرته المدينة بالسكن يدفعه لإطلاق صفات ونعوت لم يسمع بمثلها محتلو الدول بجميع مفاصل التاريخ..( هذا معيدي.. وهذا محافظات.. وهذا شروكي.. وهذا عجمي.. وهذا لفو .. وهذا .. وهذا.. )
البعض وليس الكل، لكن هذا البعض ليس بالقليل، حيث لا هم له ولا شاغل سوى أن يعتلي صهوات جياد ورقية هزيلة يخطب من فوق ظهورها خطبة الاعتداد بالإثم والاستهزاء بالآخر والانتقاص منه لأن لهجته لم تعجبه.. ولسنا نعلم ما هي القاعدة التي استند عليها هذا وأمثاله في تقييم اللهجات؟ لتصبح هذه اللهجة أجمل من تلك وأيها تصلح للمدن وأيها تصلح لأطرافها!..
شروكي.. وشروكية.. وشروك.. -وهم الأكثر مظلومية في هذا الملف-.. بمجرد لفظ واحدة منها بلسان منتقد للتعريف بأحدهم ستجد الاستجابة حاضرة لهذه الإشارة، فتكون مستترة خلف إيماءات وحركات وهمز ولمز أو تكون ظاهرة حين يكون الناقد وأعوانه في موقع قوة أو سلطة كما كان أبناء البعث وغيرهم من الجلاوزة الذين استغرقوا كثيرا في الانتقاص من هذا الشروكي طيلة عقود من الزمن فصار يشار اليه ب(شين كاف ) وصارت عباراته التي ينطقها تثير غضبهم واشمئزازهم وسخريتهم فهي تزعج مسامع من يرى في نفسه ( ابن مدينة.. مثقف.. ابن ولاية.. ويتناول الآيس كريم والبرغر ويفتخر بالسفور.. ويردد كثيرا مرحبا وهلو ويقرأ الجريدة مع فنجان القهوة وصوت فيروز مع أن القهوة والجريدة وفيروز لا علاقة لها بالثقافة وأن المعلقات كتبت في الصحراء.
في زمن البعث مُنع الشروكي من أن يكون للهجته ظهورها الإعلامي مثلما منع ابن الفرات الأوسط.. وطغت تلك اللهجة التي يتشدق بها أصحابها دون وجه حق في منحها المرتبة المتقدمة في الأداء التمثيلي في السينما والمسرح والتلفاز..
أتذكر ذات يوم أن مدرسة الرياضيات وجهت لي سؤالا فأجبتُ عن سؤالها بلهجتي وبشكل طبيعي.. لكنها تأملت في وجهي وقالت باستهزاء: أنت من الجنوب؟ لم أكن في ذلك الوقت أعلم المغزى من سؤالها ولم أكن أضع في حساباتي أن أتنصل عن لهجتي لإرضاء هذه المُدرسة أو غيرها، بل لم يكن لدي جواب آخر سوى أنني أخبرتها بأن مسقط رأسي هو بغداد ولم ألتفت حينها إلى المرض النفسي الذي تحمله تجاه لهجتنا الجنوبية.. وإلا كنت أخبرتها بأن للبصرة الفيحاء تاريخها الذي يمتد "إلى ما قبل العصور التاريخية و أن جنات عدن التي نزل فيها آدم أبو البشر تقع إلى الشمال من مركز المدينة في القرنة التي تحتوي على شجرةآدم، كما أن هنالك مدينة أثرية يعتقد بعض المؤرخين أنه تم بنائها في زمن نبوخذ نصر تدعى طريدون" وأن من أعلام البصرة (أبو الأسود الدؤلي و مرو بن سلمة الجرمي وأبو الهذيل العلاف و أبو عمرو البصري والفراهيدي وابن الهيثم والأخفش الأوسط و الفرزدق و الجاحظ والأصمعي وسيبويه و بشار بن برد و الحسن البصري و بدر شاكر السياب.
ولكنتُ أخبرتها أن ميسان كانت مملكة عظيمة نشأت في القرن الثاني قبل الميلاد وكانت "تشكل ميناء مهم على رأس الخليج العربي، حيث سيطرت على الملاحة في الخليج وفي شط العرب وأنهار الكارون ودجلة والفرات. وقد زارها الإمبراطور الروماني تراجان عام 116م وراى السفن تغادر منها إلى الهند، وكان لها قوة عسكرية مهمة حيث احتلت بابل وسيطرت على مناطق كثيرة وهزمت العيلاميين واحتلت مدينة عيلام نفسها.
ولكنتُ أخبرتها أن لذي قار مواقع أثرية تعود إلى (5000) سنة مضت وتوجد فيها مدينة أور القديمة، وهي الأرض التي كان يسكنها السومريون والاكديون وغيرهم والتي ولد فيها إبراهيم الخليل، والناصرية من المحافظات العراقية التي أخرجت أدباء ووزراء والعديد من الشخصيات المهمة.
ولأخبرتها أن الجنوب والوسط الذي لم تعجبها لهجته فيه كربلاء الحسين وكوفة علي، فيه بابل التي تفتخرون بآثارها وحضارتها فيه السماوة والكوت ولكل منهما جذور تاريخية وعمق حضاري كبير..
فهلا أخبرتني أنت أيتها السيدة التربوية وأنت أيها المثقف! مالذي يزعجكم من اللهجة الجنوبية -التي نشأت مع تاريخنا الضارب في القدم- وما هو سر الجمال في لهجتكم أنتم؟ وما هو مقياس الجمال الذي تستندون إليه في تقييم اللهجة الجنوبية؟ لن تجدوا جوابا لذلك.. لكننا سنجيب بدلا عنكم: أنكم تتصورون أن لهجتكم هي المفضلة المحببة لأن كارثة البعث التي حلت بالعراق لعقود طويلة حاولت فرض لهجة الحاكم على لهجات أطياف الشعب وسمحت -إعلاميا- بتداول لهجة واحدة قُدمت في المسلسلات والأفلام على أنها لهجة كل العراق مع عرض بسيط للهجات أخرى ولكن بنحو ينتقص من أصحابها.. لذلك كان وقع هذا الخداع كبيرا على نفوسكم ومع افتقادكم لثقافة التعايش ترسخت في أذهانكم هذه التصورات التي ملأتكم غرورا..
الحقيقة هي أننا نعتز بهويتنا وديننا ولهجتنا وقيمنا وأننا لا نرضى أن ننتقد أحدا بسبب لهجته ولا نرضى للفن أو غير الفن أن ينتقص من لهجتنا كما فعل البعثيون في العراق أو المصريون حين سخرت شاشاتهم وخشبات مسارحهم من شريحة كبيرة في مجتمعاتهم هم سكان (الصعيد) تحت مرأى ومسمع حكوماتهم.. ولم يختلف الأمر كثيرا في البحرين حيث انتقد الشيخ ميثم السلمان رئيس مركز البحرين للحوار والتسامح في مقال له حالة ازدراء اللهجات وعد ذلك تمييزا عنصريا و قد أشار الشّيخ السّلمان إلى دراسة للبروفسور كلايف هولز – الذي ترجم أشعار المرحوم الملاّ عطية الجمري إلى الإنكليزيّة – نشرها بمعهد الدّراسات الشرقيّة بجامعة اوكسفورد البريطانية، عام ٢٠٠٦م، تحت عنوان “اللّغة والهويّة في الخليج العربي“، وأكد فيها هولز بأن “التّاريخ اللّغوي في البحرين يبيّن أن هناك لهجتين رئيسيتين في البحرين، وهما اللّهجة البحرانية (الحضرية) ولهجة الخليج العربي (القبلية)، والتي تمثل امتدادا للهجات القبائل في المنطقة“.
لذلك ينبغي أن يتخلى البعض عن نظرتهم الدونية للآخر ويتأمل جيدا في تاريخ هذه الشرائح وامتداد جذورها في عمق التاريخ العربي والعراقي خصوصا والاطمئنان تماما بأن لهجات
الجنوب والوسط ما هي إلا أصوات الأجداد الذين صنعوا مجد هذه الأرض.. ومن ينكر ذلك أو يصر على البقاء في دائرة الحقد والجهل فهو أحمق يرتدي زي العناد.