بقلم: حسين فرحان
تُشدِّدُ الليبراليةُ الكلاسيكيةُ على الحُرية، ويُشدِّدُ البعضُ ممّن يُمارسُها في العراقِ على منفعةٍ شخصيةٍ بحراكٍ لا قيودَ معه في دائرةِ استغلالِ الأملاكِ العامة.
يدعمُ الليبراليون بصفةٍ عامّةٍ أفكارًا مثل حُريةِ التعبير، وحُريةِ الصحافة، والحُرية الدينية، والسوق الحُرّ، والحقوق المدنية وغيرها، على حين يدعمُ الليبراليون وغيرُهم في العراقِ أنْ تتسِعَ الحُرّياتِ بالطولِ والعرضِ ليُصبِحَ فهمُهم لهذهِ المُمارسةِ فهمًا لا مثيلَ له في تاريخِ مُمارسةِ الحُريات.. وكثيرةٌ هي الأمثلةُ والشواهدُ على انتهاكِ الملكِ العامِ واستغلالِه لغرضٍ شخصيّ.
ولعلَّ من المُناسبِ أنْ تكونَ أرصفةُ الشوارعِ في بلادِنا واحدةً منها؛ فعلى ما يبدو أنّها أكثرُ الأماكنِ عُرضةً لمُمارسةِ الحُرّياتِ في زمنِ الفوضى الإداريةِ والرقابيةِ العراقية؛ لأنّها وعلى مدى السنواتِ الماضيةِ بعدَ حدوثِ التغييرِ السياسي تعرّضتْ لانتهاكاتٍ عِدّةِ جهاتٍ جعلتْ منها أرصفةً لمُمارسةِ الحُريةِ الشخصيةِ المُتمردةِ التي لا تعترفُ بقانونٍ، ولا تلتزمُ بشرعٍ، ولا تلتفتُ لجماليةِ مدينةٍ، ولا تحترمُ أنظمتَها، رغمَ أنَّ هذه الحُريةَ ينبغي أنْ تكونَ مُقيدةً؛ (فالليبراليةُ تُتيحُ للشخصِ أنْ يُمارسَ حُرياتِه ويتبنى الأخلاقَ التي يراها مُناسبةً ولكن إنْ أصبحتْ مُمارساتُه مؤذيةً للآخرين مثلًا فإنّه يُحاسَبُ على تلك المُمارساتِ قانونيًا).
وهذا ما لم تُحقِّقْه جهةٌ رقابيةٌ لغايةِ الآن لتتركَ لهذه الأرصفةِ اجترارَ ما يُمكِنُها اجترارُه من حكاياتٍ ملأتْ ذاكرتَها بتفاصيلَ عجيبةٍ غريبةٍ ابتدأتْ بحكايتِها مع دبّاباتِ الاحتلالِ وأرتالِه العسكريةِ التي هشّمتها حينَ عبرتْ فوقَها اختصارًا للوقتِ أو استعراضًا للمهاراتِ الهوليودية، وحكايتها مع سياراتِ أبناءِ الوطنِ التي تذمّرَ أصحابُها من طولِ الانتظارِ في زحامٍ شديدٍ سببُه سوءُ الإدارةِ والتخطيطِ أو مُقتضياتِ الأمنِ ومُحاربةِ الإرهابِ كالوقوفِ في طوابيرَ أجهزةِ كشفِ المتفجراتِ التي تبيّنَ فيما بعدُ عدمَ صلاحيتها!
أرصفةُ شوارعِنا شوّهتْ صورتَها يدُ المُقاولين بمُحجّراتٍ لم تقاومِ الصدأ سوى أشهرٍ معدودات، وتجمّعتْ فيها نفاياتُ البيوتِ والمحالِ التجاريةِ لتُصبِحَ مكبًّا رسميًا مُعترفًا به من قبلِ الدوائرِ البلديةِ التي توجِّهُ آلياتِها صباحَ كُلِّ يومٍ ليرفعَ تلك النفاياتِ عمّالٌ ينتظرون انتهاءَ وقتِ عملِهم وانقضاءَ ساعاتِه دونَ أنْ يُمهلوه فواقَ ناقة.
هي أرصفةُ النفقاتِ الخياليةِ المُخصّصةِ لتلوينِها بدلوٍ وفرشاةٍ، وطلاءٍ ملؤه الماء، ولونٍ أصفر أو أبيض كأنّه اشتُقَّ من السرابِ؛ فلم يصمُدَ بريقُه الكاذبُ عندَ الزخّةِ الأولى من مطرِ الشتاء.
هي أرصفةٌ احتلتْها مافياتُ المولِّداتِ الأهليةِ التي توسّطَتْها لتمنحَ المُدنَ مزيدًا من الفوضى والضوضاء، وهي أرصفةُ المقاهي ومطاعمُ الوجباتِ الخفيفةِ والثقيلةِ..
هي أرصفةٌ خُصِّصَ جانبٌ منها -دونَ قانونٍ يُبيحُ ذلك- أنْ يكونَ مرآبَ سياراتٍ يتوسّطُه كرسي بلاستيكي لصاحبِ الجبايةِ وهو يحملُ دفترَ وصولاتِ الدفع المُسبق!
وهي أرصفةُ بيعِ وجزارةِ الأبقارِ والأغنامِ في وقتِ الأعيادِ وفي غيرِ أوقاتِها، بل هي أرصفةُ بيعِ الأسماكِ الحيّةِ و(المسكوفة) على الطريقةِ العراقيةِ التي يعرفُها الجميع!
تكادُ أرصفةُ شوارعِنا العامةِ أنْ تكونَ من أكثرِ الأرصفةِ تجديدًا وتحديثًا، فأشجارُ الزينةِ تُزرَعُ فيها عِدّةُ مرّاتٍ في العامِّ الواحدِ، ولا تُسقى إلا مرّاتٍ قليلةٍ بحسبِ ما يقتضيه مزاجُ صاحبِ السيارةِ الحوضيةِ أو مزاجُ مديرِ الدائرةِ البلديةِ وبطريقةٍ مُمِلّةٍ بائسةٍ رتيبةٍ لا تكادُ الشُجيراتُ فيها أنْ ترتويَ أو تنموَ لتذبلَ وتموتَ، مُعلنةً عن بدايةِ صفقةٍ جديدةٍ لشراءِ شُجيراتٍ غيرها، يشرفُ على زراعتِها مُقاولٌ لا يفقهُ في الزراعةِ شيئًا! ولا يهمّه إنْ ماتتْ الشُجيراتُ بعدَ ذلك أم طالَ بها زمنُ المكثِ على أرصفةِ الصفقاتِ الحزبية.
أما أرصفةُ شوارعِ الأحياءِ السكنيةِ فكانَ لبعضِ السادةِ المواطنين رأيٌ آخر في مُمارسةِ حريّتِهم عليها، فهي الأمتارُ المُربعةُ الجديدةُ التي أضيفتْ لمساحاتِ بيوتِهم، وهي المضائفُ والمطابخُ التي اختبأتْ خلفَ جُدرانٍ بُنيتْ بالطابوقِ أو غُلِّفتْ بصفائحِ الحديد، لتضمَّ معها أعمدةَ الكهرباءِ بما تحملُ من مُحوّلاتٍ وأسلاك!
مثلما شهدتْ بعضُ المناطقِ شوارعَ دونَ رصيف، فقد التهمَ اللانظامُ هذه الأرصفةَ العامةَ ليجعلَها ملكًا خاصًّا دونَ رعايةٍ لشيءٍ من ضميرٍ أو شعورٍ بمسؤولية، ولعلّ البعضَ حين يمرُّ بهذه الأزقة سيُنشِدُ -تهكُمًا أو حزنًا- أبيات درويش التي يقولُ فيها:
ذات يومٍ سأجلسُ فوقَ الرصيف..
رصيف الغريبة..
لم أكنْ نرجسًا...
بيدَ أنّي أدافِعُ عن صورتي في المرايا..
أما كُنتَ يومًا هُنا، يا غريب؟
ولعلّ من المُناسبِ أنْ ننشدَ معه:
أما كُنتَ يومًا هنا، يا رصيف؟