- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
حوار من عالم آخر مع احد الناجين من "فيروس كورونا"
بقلم: عادل الموسوي
متابعة الارقام قد تكون هَوَساً تعودناه من ارقام نتابعها، نتبادلها، كارقام درجات الحرارة او سعر الصرف او نتائج المباريات مثلاً، ارقام قد تفيد ملء فراغ الحديث..
اما ارقام اليوم فلا تسعها الاحاديث، فاليوم يتابع الجميع ارقام الموقف الوبائي في البلاد بقلق شديد، ويقارن نتائج الاعداد المتزايدة التي لا تسمح بالمبالغة، ولا تتحمل الاثارة، فما يذهلك من ارقام اليوم تستبشر به غداً..
يدور الخوف مدار بُعد دائرة الخطر وقربها، وبالطبع لم نصل بعد بتربيتنا الروحية الى مثالية الاهتمام بارتفاع اعداد الاصابات في العالم الانساني او الإسلامي او الايماني، نقرأ اجمالي الاصابات في العراق، لكن الاهتمام ينحاز لبغداد، وجانبها الذي فيه مدينتنا، والمدينة اولى واولى منها المحلة، ولكن ليس من قرأ كمن سمع، ولا من سمع كمن رأى، فالدائرة تضيق باصابة الاقرباء والاصدقاء والجيران، وكأن الوباء كالموت، يقين لا شك فيه اشبه بشك لا يقين فيه.
محمد عباس الغراوي ١٩٧٣، موظف في التربية، ان لبس العقال والزي العربي فهو في وفد اصلاح عشائري، فان لبس السواد والحزام العريض فهو حسيني في احد مواكب الخدمة، واذا كان يوم عاشوراء لبس لامة الحرب وتقلد سيفا وترساً وتقدم ليخطب: " ايها الناس ان ثقل محمد صلى الله عليه واله قد اصبح بين اظهركم" يعيد للاسماع كلمات شيخ القراء برير بن خضير، فاذا طرح لامة الحرب القديمة ولبس اللامة الحديثة، توجه مع احد مواكب الدعم "اللوجستي" التي جابت البلاد طولاً وعرضاً لدعم المقاتلين في جبهات القتال، ثم لدعم عوائل الشهداء بعد انتهاء حرب الثلاث سنوات مع الارهاب.
صُدِم الجميع فقد اعلن "ابو غدير" وطلب من الاخوة المؤمنين الدعاء لاخيه محمد عباس "ابو سجاد" لاصابته بـ"فيروس كورونا"..
مالذي حدث؟! الوباء ينتشر وامر الاصابة طبيعي جداً، فلم الصدمة وكأن المصاب نُعِيَ لاصدقاءه ومعارفه؟!
ببساطة لان الحق قد حصحص الان، وان الوباء قد اقترب، ويحصحص الحق اكثر ويزداد اليقين اعلى لو ان احداً من افراد عائلة الفرد قد اصيب، ليكون الوباء يقيناً لا شك فيه، وهذا هو المحور الاول من قصة محمد عباس مع "كورونا".
اتصلت به على وجل واذا به يرحب ضاحكاً ليقلب المعادلة، قال: "سيدنا معقولة كورونا بالمنطقة وما تصير عندي".
اذن فالامر بسيط جداً وكأنه نزلة برد خفيفة، الا ان ما وراء الهاتف قد يكون أمرا اخر مختلف تماماً.
في فترة اسبوعين تقريباً تواصلت معه كتابةً وكان مجمل الامور يبشر بخير، والكل مستمر بالدعاء له وللمؤمنين بالشفاء، حتى اعلن عن شفاءه، فإستبشر الجميع خيراً، فإتصلت به لتبدأ القصة.
ابتدأت الحوار فأتحفته بطرفة من مآسي العراقين عندما عاد اسرى حرب الاعوام الثمانية، فقلت له راوياً: بعد ان خلا البيت من الضيوف المهنئين بسلامة العودة خرجوا وقد اشبعوا الفضول، وقبل ان يقر قرار الاسير في البيت مع العائلة واذا بـ"حجي جبار" يقبل زائراً.. اثنى الوسادة متكئاً يخلل اسنانه: "اي عمي.. شنهي ما شنهي، شلون التحقت، شلون تأسرت، اريدك تسولف لي من اول ما صعدت من النهضة".
نعم ابو سجاد اريدك ان تروي قصتك مع "كورونا"، "من اول ماصعدت من النهضة"، اي بالتفصيل.
فقال: على العادة عند الاصابة بارتفاع درجة الحرارة وبعض اعراض البرد، كنت اذهب الى المضمد فأزرق ابرة "الانفلونزا"، الا ان درجة الحرارة لم تنخفض هذه المرة، الحقتها بابرة ثانية في اليوم التالي، لكن لا نتيجة فالحرارة ترتفع فدبت الشكوك.
اتصلت بأخي الدكتور علي، فاستقدمني لاجراء "المسحة"، بدأت باجراءات الابتعاد والحجر الجزئي، وذهبت في اليوم التالي الى المشفى مع اخي حيدر تحت اقسى انواع الحيطة والحذر من احتمال نقل العدوى، رجعت ليبدأ الحجر التام بانتظار النتيجة.
في الواقع كان الحال مع العيال والاطفال اشبه مايكون بتوديع رجل ميت، وحيداً فريداً، كان العزل كأنه القبر في الحياة، فرضت سياقاً من التعامل مع العيال خوفاً على الجميع من انتقال العدوى، فحرّمت عليهم الخروج من المنزل، وحرّمت على نفسي الخروج من غرفة استقبال الضيوف، الا للحاجة والوضوء الى صحيات في باحة المنزل، الهاتف كان وسيلة الاتصال، اوجههم بترك الماء والطعام "السفري" عند الباب، مخلفات الطعام اجعلها في كيس اعقمه من الخارج ثم اضعه في المهملات واتركها عند الباب لتغلف في كيس اخر محكم.
استمر السجن الانفرادي في هذا الحال لاكثر من اسبوعين، وكذلك السجن العام للعيال، كان القرار حاسماً بعدم الظلم للاخرين بنقل العدوى.
في السجن توقن ان ليس لك الا الله وحده، وما تعتمد عليه من اعمالك الحسنة، وليس لك منها شيء، ولا تعول عليها في شيء، الا ما تعلق بما قدمته للمؤمنين والدين والبلد، وما بذلته من خدمة للحسين عليه السلام؛ مشاعر واحاسيس عجيبة، تعيشها وقد كنت تقرأ وتسمع عنها في روايات عن العالم الاخر والبرزخ.
وطَّنت النفس لقضاء الله وقدره وعملت بما يقتضيه التكليف..
قلت: من وطَّن النفس للعيش في عوالم الخلود لا تنتابه الحسرة لفراق العالم المحدود.
واكمل ابو سجاد..
قال: راجعت المشفى لمعرفة النتيجة والفحص بجهاز "المفراس" فكانت الحالة موجبة ولكن بحمد الله كانت نتيجة الفحص بالجهاز ان "الفيروس" لم يصل إلى الرئة، وصف لي الدكتور علي، علاجات تصل تقريباً الى تسعة انواع منها المضادات والفيتامينات وما تعارف من "البروتوكول" العلاجي مع هذا المرض مع نصائح بالتزام التغذية الجيدة وتناول الفيتامينات مثل البرتقال والليمون وعصائرهما..
كان العلاج يعتمد محورين اساسيين: هما تقوية المناعة، ورعاية الحالة النفسية والتي تنعكس ايضاً على المناعة العامة للجسم..
الايام الاولى بعد ظهور الاعراض كانت عصيبة جداً.. عانيت امراضاً عدة في الفسحة التي عشتها من العمر، الا ان اربعة ايام او خمسة لم تمر عليّ مثلها، وسأتذكرها وانا في القبر، ساءت الحال وارتفعت الحرارة بشدة وانتابني صداع شديد اليم لا يوصف، وبدأت نوبات السعال التي تقلع الاحشاء، واشياء غريبة عجيبة مرعبة ينطبق بها المريء ويجرحه الهواء، ثم تشعر وكأن كائنات مجهولة كالنمل تدبي صاعدة نازلة..
يالله..
اشتدت الحال فاتصلت بالدكتور علي وطلبت النقل للمستشفى فنصح بإكمال العلاج في المنزل لان حالتي -بحسب تقديره- من الحالات المتوسطة وان ليس لديه مكان في المستشفى، وذكر لي بأن حالاتي لو كانت متقدمة لما كنت استطيع الكلام والتنفس.
ما تقدم من حديث "ابو سجاد" كان اجوبة في حوار معه عبر الهاتف، ولم يكن ضرورياً ان ادرج الاسئلة، الا ان ماينبغي ادراجه: اني سألته عن الاتصال الاول وكيف كان يمازحني، وعن ما لحقة من تواصل بالكتابة وكيف صور الامر لي بسيطاً وكأنه نزلة برد خفيفة.
قال: كنت اتعامل مع الجميع بهذا المنحى، كنت اريد ان ارفع من معنويات المعارف والاصدقاء، وارفع عنهم الاحراج والحيرة بين اداء الواجب من حقوق الصديق المريض، وبين خطورة الموقف من انتشار العدوى، كنت ابعدكم واقيلكم اداء ما تطيقون، وكذلك الامر كان مع اخوتي، فجنبتهم الشعور في التقصير بحق الاخوة..
رغم ذلك فان هناك مواقف جليلة مشكورة، فقبل قليل مثلاً اتصل احد المعارف من امام الدار عارضاً بإلحاح مبلغ مليون دينار، وفي فترة المرض وفر بعض الاخوة الاعزاء ابن العم ابو محمد وصديقنا غزوان بعض الادوية والمستلزمات الطبية، ومن الطريف ان احدى المعلمات -زميلة في المدرسة- قد طبخت وجبة غداء كاملة مع مستلزمات طبخ كامل وقدمتها لنا شعوراً منها بضرورة المواساة في مثل هذا الظرف..
ومن الطريف في الحديث عن المعنويات: ان احد الاصدقاء -حامد العقيلي ابي فاطمة- اتصل باكياً معزياً، فأستقبلته ضاحكاً مُطَمْئِناً..
وذكر لي في وقت لاحق انه التقى بصديقنا ابي حوراء فذكر له اني مصاب بـ "كورونا"، فتأسف وقال: لابد ان اتصل حالاً بأبي سجاد، فأنه بأمس الحاجة لرفع المعنويات، فقال له: نعم اتصل به ليرفع من معنوياتك انت..
وعودة الى المعركة مع المرض في تلك الأيام العصيبة، تراجعت شيئاً فشيئاً تلك الشدة وخف الالم تدريجاً وكذلك الحرارة، في تلك المحنة لم يبقَ في الجسد مساحة الا ودارت بها معركة ضارية، صار جسدي خاوياً وبت نحيلاً.. لم يبقَ عِرقٌ الا وانقطع، ولا مفصل الا وأَن..
اتصلت بالدكتور علي لاطلاعه على التطورات وسألته اجراء "المسحة" فذكر ان لاحاجة الى ذلك وانني بطور الشفاء ووجه بما يجب من تعليمات واحتياط ونقاهة، وشفيت بحمد الله في اسبوعين وكانت بعدهما الولادة الجديدة، لذلك امكنني الان الاعتراف بقصتي مع المرض.
سألته عن اثر الايمان والاعتقاد والعمل في خدمة الدين والمجتمع على مواجهة المرض.
فقال: في بعض اوقات العزلة وسجن الحجر كانت لي نوبات من البكاء والنحيب، الا ان املي تعلق بالامام الحجة صلوات الله وسلامه عليه، وتعلق قلبي بسيدتي فاطمة الزهراء عليها السلام، واحلف باغلظ الايمان اني كنت اشعر بوجودهما معي في الغرفة، ومن الطريف ان الشيخ علي العقيلي اتصل بي مواسياً موصياً بقراءة بعض الايات والادعية وموجهاً بتأكيد العلاقة مع الامام الحجة عليه السلام..
وما ينبغي ذكره في هذا المقام: ان احدى محارمنا رأت في المنام انّ رجلاً كبيراً بعمامةٍ سوداء دخل الغرفة، اقترب مني فأخذ بيدي اليمنى وقال لي: قم..
قالت: قلت له ما تريد من ابي سجاد انه مريض وتعبان جداً، قال لي: لا عليك انا سيد علي، قلت: انت مولاي علي بن ابي طالب، قال: السلام على مولاي امير المؤمنین، بل انا سيد علي السيستاني..
وكان لجميع ذلك الاثر البالغ والطاقة الايجابية العظيمة والعجيبة في تجاوز المحنة، كما ان للعلاقات الواسعة الناتجة من الاعمال التطوعية في خدمة الدين والمجتمع كمواكب الخدمة ومواكب الدعم "اللوجستي"، كان لي منها رصيد من الاخوة المؤمنين الذين ما فتروا عن الدعاء والمواساة.
سألته ان كانت فترة المرض حداً فاصلاً بين فترتين من حياته، وان الشفاء كان نقطة تحول مهمة.
قال: ما كان قبل المرض في كفة ميزان، وما كان في فترة المرض في كفة اخرى، وكأنني منحت فرصة العودة للحياة لتصحيح المسار نحو الافضل.. انا الان بصحة جيدة وانتظر نهاية فترة النقاهة لأخذ الدور اللازم بالتبرع بـ"بلازما" الدم.
في الواقع عشت مع محمد عباس اثناء الاتصال الهاتفي أجواءً مفعمة بالحياة وكأني اتصل برجل من عالم البرزخ، اذن له بالرجوع..
هل الاصابة بهذا المرض العجيب بسيطة جداً؟
نعم!
هل الاصابة بهذا المرض صعبة جداً؟
نعم!
وكأن هذا المرض كالصراط المستقيم ارق من الشعرة وأَحَدُ من السيف ينصب فوق الجحيم..
فمن الناس من يعبر زحفاً، ومنهم من يعبر ماشياً، واخر راكضاً، واخر يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يهوي، و"ان على الصراط عقبة لايجوزها احد بمظلمة".
خلاصة العبرة:
١- التعامل بالحكمة والعقل مع هذا المرض باتباع التوجيهات الصحية والدينية، من ضرورة الوقاية للنفس والغير وعدم التسبب بايذاء الآخرين.
٢- التعامل مع هذا المرض من منطلق الخوف فلابد من الوقاية والحذر، والرجاء بعدم انقطاع الامل او اليأس من روح الله والذعر من المرض عند الاصابة، فالمرض عدو جبان يتمكن من ضعفاء الروح والايمان.
٣- حسن الظن بالله، وان لا شيء يبقى دون تغيير وان سنن التاريخ شاهد حي، ولعل مسار البشرية تعرض الى انحراف خطير استوجب انعطافة تاريخية لإصلاحه، وإن مهمة "الفايروس" ستنتهي عند تعديل ذلك المسار.