- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الخندق المقابل للتظاهرات.. ما الذي يهدف له بترويج مقولات العفوية والسلمية ؟!
بقلم: ياسين البكري
خلال شهر من التظاهرات الشبابية تم تداول مفردتي (العفوية والسلمية) بشكل كبير من أطراف عدة، و إذا أردنا اختزال المُستخدمين بثانئية الأضداد سنجد إن طرفي النزاع يتداولانها، أي القوى السياسية المُتظاهر عليها، وقوى التظاهر، الأمر الذي يخلق حالة من الالتباس والحيرة كالحيرة التي خلقها إستخدام تكبيرة (الله أكبر)، من القاتل والمقتول طوال فترة صعود قوى التطرف التكفيري.
وبما أن الأطراف التي تستخدم المفردة الواحدة تعمل في خنادق متقابلة ولها رؤى وأهداف مختلفة متضادة، وأي تسوية بينهما ستكون من حساب الطرف الثاني، فإن المعادلة تشير بأن مفردتي (العفوية والسلمية) لهما استخدام مختلف، أحدهما نقي صادق إيجابي، وأخر مدلس متلون يخفي أغراض تحاول ضرب التظاهرات وإضعاف أهدافها، وما بينهما ظلال من رمادي ممتد أبيض حيناً، وحيناً قاتم مسود ينتقل بينهما محتار بالذي يجري.
فما الذي تعنيه العفوية والسلمية في شعار المتظاهرين؟
وما الذي تريده منها قوى الخندق المقابل، الغاضب غير المصدق بما يجري؟
قوى التظاهر كانت تريد بالـ (عفوية) صد محاولات شيطنة المتظاهرين وتهمة تبعيتهم لأجندة خارجية تحركهم، ومن هنا كان معنى المظاهرات إنها نضجت تدريجيا بسياق معاناة وعوامل داخلية ضغطت على جيل الشباب وراكمت وعيه وبلورته خلال فترة سنوات وهي تشهد فشل الطبقة السياسية المتكرر وفسادها وارتهان معظمها لقوى خارجية بسبب طبيعة التغيير الذي حدث في 2003، بفعل خارجي وتحول المجال السياسي للتجربة الجديدة ساحة صراع دولي وإقليمي، ولم ينحصر استخدام مفردة العفوية من قبل المتظاهرين على محاولة تطهير التظاهرات وتنقيتها، بل في مضمونها العميق كانت تظاهرات ضد التدخل الخارجي ورفضاً له، ومحاولة لإعادة صياغة الهوية العراقية على متبنيات تختلف عن شقاء ومأساة تجربة البعث قبل 2003، وتختلف عن تجربة حدود الطوائف وخطوطها المرسومة بالدم بعد 2003.
وفي سياق بلورة هوية وطنية عراقية وتعزيز حضور الدولة ورفض سلوكيات القوى السياسية التي أضعفت الدولة، تم استخدام مفردة (السلمية) من قبل المتظاهرين منذ اليوم الأول لها، فغاية التظاهرات ليست تدمير ما بقي من هياكل للدولة بل تعزيزها لتكون الدولة هي الفاعل الأساس في إدارة تناقضات المجتمع وصراعاته، فهذا الجيل وعى بشكل جيد وبالتجربة المرة معنى ضعف الدولة وتوزيعها غنيمة بين الأمراء، لذلك يسعى جيل المتظاهرين اليوم لاستعادة آوالية الدولة وقوتها في مقابل من يريد إبقائها هشة ضعيفة، من هنا رفض المتظاهرون ثنائية (متظاهر مقابل رجل أمن)، فالقوى المسلحة في وعي المتظاهرين قوى دولة وجزء من مشروع بنائها في مقابل من يريد اختطافها وإضعافها والتغول عليها وعلى المجتمع، لذلك كانت الثنائية التظاهراتية، (متظاهر مقابل قوى سياسية وحكومة).
لم تفهم الطبقة السياسية إن احتكار السلطة والهيمنة بما يشبه الأوليكارشية الفاسدة سينتج نقيضاً رافضاً وينتج مقاومة تعيد إنتاج مشهد مغاير، وهو بالضبط ما يجري الآن من صياغة مستقبلية لصورة جديدة للعراق.
الإستخدام المقابل السيء لمفردتي (العفوية والسلمية)، أتى من الخندق المضاد للتظاهرات ومطالبها، من القوى التي تسعى جاهدة لإفراغ زخمها وإطفاء جذوتها، لأنها تفهم في حال نجاح التظاهرات بإرغام القوى السياسية على التنازل، فذلك سيكون بداية بناء الدولة ونقطة الشروع في ترسيخها وتقزيم أدوار الراقصين على طبول ضياع الوطن.
المعنى الموارب لمفردة (العفوية) كان يبغي تأكيد وترسيخ معاني الصبيانية وإنعدام الوعي فيها، وغياب الرؤية والهدف ووضوحه، وافتقاد التظاهرات للبصيرة والبصر، ذلك المسعى المدلس يحاول تبرئة تجربة 16 عام من فشل وفساد الطبقة السياسية ويغيب كل إحباطاتها التي انعكست على الشعب العراقي فقراً وبطالة وإنعدام خدمات وتفتيت هوية جامعة وانعدام أمل.
وفي مجال مقابل يحاول المعنى الموارب نقض تطور الفعل الاحتجاجي الجماهيري العراقي منذ تظاهرات شباط 2011، صعوداً، فاحتجاجات تشرين 2019، ليست حدثاً منفصلاً عما قبلها، فما جرى في 2011، كان مرانا وتكيف لسيرورة ونسق من الإستعدادات الشعبية للفعل والتفاعل أسس لما نشهده الآن، وإذا كان الفعل الإحتجاجي قد شهد تطوراً في المساحة والأعداد والشعارات والمطالب والأدوات، فإن مواجهة السلطة للإحتجاج بقيت متخلفة ومحافظة على نفس المبررات والإتهامات القديمة خصوصاً تهمة التبعية والمخاوف من الإنفلات والفراغ الحكومي الذي قد يخلفه مطلب إستقالتها، وحافظت السلطة على نفس أدوات القمع المباشر أو غير المباشر كالتضييق على التعبير عن الرأي ونقل المعلومة وحريتها، في جمود غريب ومنفصل عن الواقع ويشبه ردات فعل السلطات التوليتارية التي وجدت نفسها في لحظة تغير واحتجاج إجتماعي من مالكة لكل شيء ومهيمنة عليه الى مفلسة من كل شيء.
وفي سياق مدلس آخر كان يجري التأكيد على ضرورة تبني التظاهرات للمسار السلمي في إتهام موارب للتظاهرات وكأنها تحتوي على هدف عنفي تدميري وتعمل به، ويحملها مسبقاً نتيجة إفتراضية بان مآل التظاهرات تدمير وحرق وتنكيل وثأر، وليس مطالب بإصلاح بنية النظام السياسي والإقتصادي والإقتصاص من الفساد ومن أشاعه واستفاد منه بثراء فاحش.
مطالبة التظاهرات بالسلمية من قبل الخندق المقابل إنكار لحقيقة إنها كذلك، سلمية كانت وما زالت، ومحاولة إنكار وقحة لحقيقة من بادر بالعنف، ومسعى لتمييع وتغييب الفاعل في جريمة قنص المتظاهرين وتورية على أرقام الضحايا، فمئات الشهداء وآلاف الجرحى لم يكونوا نتاج صدامات بينية لمتظاهري ساحات التحرير والتظاهر في بغداد والمحافظات الأخرى، بل كان فعلاً ممنهجاً من قبل السلطة ضد المتظاهرين.
التورية في إستخدام المصطلحات ليست محاولة بريئة بل تحمل قصدية النيل من التظاهرات وتهدف لإفراغ المعاني الكبيرة لها وما تحتويه من مضامين تحولات اجتماعية وسياسية كبرى، فعفوية التظاهرات ليست فعلاً فاقداً للرؤية والهدف والبوصلة، وسلميتها مطلب المتظاهرين أنفسهم، وليس مطلب يُقدم لهم من قبل القوى التي تمارس العنف ضد المتظاهرين.
أقرأ ايضاً
- الصيد الجائر للأسماك
- ضمانات عقد بيع المباني قيد الإنشاء
- إدمان المخدرات من أسباب التفريق القضائي للضرر