د. إبراهيم الجعفري
مِن عَلامَات الحكمة بالشخصيَّة مراعاة الأولويات في حالات الخيارات عندما تتعدد سواء في تحقيق المصالح حيث تكون الخيارات بين المهم والأهم أو دفع الأخطار والمفاسد حيث يدور الأمر بين السيئ والأسوء أو الخطر والأخطر وهي قاعدة عقلية يدركها العقل السليم ويتعاطى بها الناس بمختلف توجهاتهم ومهما تكن طبيعة حياتهم..
وهذهِ الحقيقةُ تُدرك منذ وقتٍ مبكرٍ من الحياة وتتأكد بمرور الزمن وزيادة العمر ويلمس الإنسان مصاديقها في مجالات حياته العائلية والاجتماعية والسياسية فهو لا يفكر فقط بالبحث عن الفرص لتنفيذ ما يريد من أهداف بل يدقق عند تعددها بأيهما المتقدّم على البقية..
فالأولوية تستدعي تقديم الأهم على المهم والأنفع على النافع تماماً مثلما تستدعي تقديم دفع الأخطر على دفع الخطر..
أن تحترق سيارتك خطر وخسارة أما بذات الوقت اذا احترق بيتك وفيه أهلك فهو الأخطر والأكثر خسارة فتترك الخطر وتتجه نحو الأخطر.. وكذلك في باب المصالح فحين تتوازى مصلحتان في آن واحد ليس لك الا أن تنشغل بالاهم والانفع على الثانية.. ولا يعقل ان تستهلك في الأقل على حساب الأكثر "أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِاَلَّذِي هُوَ خَيْر" هذا هو ديدن أمة بني اسرائيل أمة اللجاجة والتشتت والإلحاح والاستغراق بالمشاكل والرضوخ الى عقدة التسييد المزيف والأحلام الموهومة!!..
أمرهم الله ان يذبحوا بقرة ويضربوا المقتول ببعضها ليقوم حيّاً بإذن الله ويخبرهم عن الشخص الجاني!! استغرقوا بالتفاصيل العقيمة سائلين عن عمرها؟؟! وعن لونها؟؟! وهل هي سائمة أم عاملة؟؟! فأجابهم الله تعالى ولمّا شدّدوا على أنفسهم شدّد الله عليهم ما كانت النتيجة؟؟ وقد شاهدوا المعجزة بأمّ أعينهم! لكن مرض نفوسهم أوصلهم لعملٍ ينطوي على نزعة التمرد "فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ"..
إحدى علامات الكبار هي الترفّع عن سفاسف الامور ومراعاة الاولويات فتراه يدرك تفاصيل الأشياء بوعي لكنه بنفس الوقت يدرك الأهم منها والأخطر ويتعامل على ضوء أولوياته هو كفعل ومبادرة وليس أولويات الاخرين كردّة فعل واستجابة.. ومنه جاء قولهم (ع) "الحكمة ثلاثة أثلاث ثلثان من التغافل وثلث من الفطنة"..
مراعاة الاولويات معناه احترام الزمن والحكمة في توزيع الجهد على الامور الأكثر أهميةً ودفع الأمور الاخرى الأشد خطورة والحكيم من يبادر ولا يرد من وحي ردود الأفعال انما هو مأنوسٌ بما يحمل من هموم ومفاهيم تجعله يعيش متأسياً برسول الله (ص) وهو يقول "اللهمَّ أهد قومي فإنهم لا يعلمون " الانطلاق من المبدأ كفعل وصياغة ردود الأفعال يعكس المبدئية والواقعية في آن واحد.. عدم الرد على الإساءة لا يعني صحتها ولا عدم القدرة على ردّها انما يعنيه وبالحرف الواحد هو وعي الاولويات وشجاعة التحكم بالمواقف فالوعي لا يتجزأ كالشجاعة هي الاخرى لا تتجزّأ..
فبماذا نفسّر مواقف الرسول (ص) في الترفّع عمّن أساء اليه في ذات الوقت الذي كان يتمتع بتلك الشجاعة الفائقة في ميادين الحرب؟!؟!
أولويات الأَخطار التي تهدد العراق من نهب الثروات وهتك السيادة وزهق أرواح الأبرياء واشاعة ثقافة الفساد والتحلل بين الشباب تتقدم على الأضرار الشخصية!! وأولويات بناء البلد أمنياً واقتصادياً وسياسياً تتقدم على المصالح الشخصية!!.