عباس الصباغ
اختزل الشارع البصري بسلسلة احتجاجاته المتكررة جميع معاناة الشارع العراقي وعبّر عنها تعبيرا عمليا ودفع ثمنها باهظا من دماء شبابه المطالبين بأبسط حقوق العيش الكريم، فكان لسان حال الشارع العراقي وضميره المتكلم ، وان كانت معاناة الشارع البصري قد بلغت حدودا لاتطاق ادت الى انفجاره لأكثر من مرة، بسبب الاهمال المتعمد لحكومات ماقبل التغيير النيساني ولامبالاة حكومات مابعد هذا التغيير لشؤون هذه المحافظة الاستراتيجية التي تعد اضافة الى كونها عاصمة العراق الاقتصادية فهي سلته التي ترفد موازناته المالية منذ نشوء الدولة العراقية الحديثة، واختصارا لما يجب ان يقال عن اهمية البصرة الاستراتيجية القصوى فهي صمام الامان الاقتصادي للعراق وثغره الباسم واطلالته الوحيدة على البحر وبدونها لايسمى العراق بلدا ساحليا، وهي إطلالة العراق الإقليمية والساحلية التي تعطي للعراق اهمية جيوستراتيجية اضافية تضاف الى بقية الاهميات العراقية التي تجعله قلب الشرق الاوسط النابض.
ورغم تلك المزايا التي حظيت بها البصرة الاّ انها لم تلقَ الاهتمام الذي يليق بها كباقي المدن العالمية التي تحظى بمزايا استراتيجية مشابهة، فالبصرة ومنذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة كان يجب ان تتوّج عاصمة العراق الاقتصادية ما دامت ترفد الموازنات المالية الاتحادية من خيرات ارضها المعطاء ، او التجارية مادامت تمتلك الميناء الذي يطل منه العراق على البحر، فلم يتوجّه اي اهتمام حكومي للبصرة رغم وجود تلك المزايا فبقيت بملايينها ترزح تحت خط الفقر مع تدنٍ مريع لأبسط خدمات البنى التحتية، فليس من المعقول ان تعاني هذه المدينة وفي اجواء قيظ الصيف الحارق من نقص حاد في مياه الشرب ، او من تردي تجهيز سكانها بالطاقة الكهربائية الوطنية مع محرومية واضحة في المستوى المعيشي لأغلب سكانها الذين يعانون من نسب عالية من البطالة المقنّعة ونضوب فرص التعيينات الحكومية. فلايستغربنّ المتابع للشأن العراقي من تكرار انتفاض الشارع البصري على اوضاعه المزرية التي بقيت دون حلول جدية او كانت معظمها حلولا "ترقيعية" او مجرد وعود لامتصاص نقمة الشارع البصري الذي كان ومايزال بحاجة الى حلول جدية وواقعية وليست آنية او مرتجلة.
ان معاناة البصرة لاتتلخص في مجرد شح للمياه او تجهيز الكهرباء او في قلة التعيينات فقط، فهي اكبر من ذلك بكثير لان رجل الشارع البصري يرى نفسه مغبونا كونه يعيش محروما في مدينة استراتيجية ومحورية بل هي في الواقع عاصمة العراق الاقتصادية ومازالت، وهي تشكّل العمود الفقري للاقتصاد العراقي، ومع هذا فان المواطن البصري يعيش في ادنى مستوى ممكن ان يعيشه اي مواطن عراقي ولهذا فرجل الشارع البصري ومن خلال الاحتجاجات المتكررة يريد ان يوصل رسالته ـ وهذا هو حقه الدستوري المكفول ـ الى العالم اجمع والى حكومته التي انتخبها واعطاها صوته الثمين بانه يستحق ان يعيش في مستوى افضل.
والمطلوب من حكومة السيد عبد المهدي ان تقرأ رسائل البصرة جيدا فهي ليست شفرات عصية عن التفكيك او مجرد مصفوفات لغوية او شعاراتية تمثل "ترفا" فكريا لأناس محرومين يئسوا من كثرة الوعود التي مُنحت لهم ومن عدم جدية بعضها والتي قدُّمت لمشاكلهم وهي كثيرة،وتلبية حقوقهم ليست امرا تعجيزيا فوق مقدرة الحكومتين المركزية او المحلية وانما هي ممكنة ان توفرت النية الصادقة لذلك، كما ان المظاهرات التي تتكرر في مدينة واحدة بين آونة واخرى دليل على استمرار معاناة اهلها ونفاد صبرهم وقلة حيلتهم تجاه الصمت الحكومي ازاء تلك المعاناة التي لاتليق بأناس يعيشون في عاصمة بلدهم الاقتصادية.
ومن الخطأ ان يتحرك الجهد الحكومي عندما تتفاقم المشاكل او تزداد المعاناة او ينفجر الشارع ازاء ذلك، ولابد من وضع خطط استباقية لمعالجة تلك المشاكل وتقليل معاناة الناس الى اقل قدر ممكن، ويجب ان يكون ذلك الجهد وفق خطط سنوية تتضافر فيها جميع الوزارات المعنية، ولايكون ذلك ارتجاليا او رد فعل آني كما حصل مع مسالة شح المياه وهي مسالة ـ لوحدها ـ كشفت عن تقصير حكومي واضح لم يكن وليد لحظته، وقد آن الاوان للحكومة ان تقرأ رسائل البصرة جيدا فهي رسائل واضحة وصريحة قبل فوات الاوان.
أقرأ ايضاً
- مقابلات المرجعية الدينية الشريفة...رسائل اجتماعية بالغة الحكمة
- إقامة سد في البصرة ما بين الاهمية والمعوقات
- معركة طوفان الأقصى.. التداعيات المتسارعة والمواقف الأمريكية الواضحة !