بقلم: محمد لواتي
الأصنام... كما يحكي عنها التاريخ والديانات السماوية أوجدها الإنسان ليعبدها كإله مادي منظور. وظل يحملها معه أحياناً حسب المقام والظروف وإذا جاع أكلها كما كان كانت عبادة الجاهلية. وقتها كانت أخلاق البشر تأخذ بريقها من واقع هذه الأصنام، وأحياناً من بقايا أقوال الحكماء على قلتها، ومع ذلك كانت أخلاقاً محترمة ويحسب لها في ميزان الشرف حساباتها. كانت أخلاقاً أحياناً بمثابة القانون لا يمكن لأي كان اختراقها بل إن الرجل ليعرف بين قومه وعشيرته بهذه الأخلاق، فيصادق أو يعادي بسبب محتواها. البشر وعلى مر التاريخ هم بشر، والمشاعر هي المشاعر وإن تفاوتت من حيث المساحة ومن حيث العطا. لكن الأمر اليوم ومع تقدّم الإنسان بمسافة هائلة نحو الرقيّ ونحو الإدراك- شبه كلّي- لحقائق تخصّ ذاته أو تخصّ الكون كله الذي هو منه وإليه، فإنه يعاني من تخلّف ذهني، جلّه افتراضي، ومن قسوة الواقع والضمير بسبب أخيه الإنسان، (كما يحدث اليوم في اليمن من إبادات جماعية) وإن ادّعي أنه على عمق في الحضارة وعلى وعي بمميزاتها. أميركا بعقلائها وبمحترفي التحليل السياسي فيها معاً، تعدّ أكثر الدول إنتاجاً للحضارة المادية وأكثر إنتاجاً لأمراض العصر.
لقد تخلّت أميركا بحكّامها من عهد الرئيس جون كنيدي إلى الآن عن الإخلاص لقيمها (الحرية والديمقراطية) وإن ادّعى البعض منهم المسيحية الإنجيلية، وتحوّلت إلى دولة منتجة للقبح في كل شيء بأسوأ مما أنتجته الوثنية في الجاهلية. تنتج الكذب وتقول إنه من صنع المخابرات، أو وقع ذلك خطأ، وتقول إن العالم كله يتغذّى من الإرهاب وإنها الوحيدة التي تعاني من ويلاته بقسوة وبأسوأ حالاتها إنها معرّضة للضرر منه في عمق دارها بسبب أو بغير سبب. وهي التي أنشأته، وهي التي تضرب صباح مساء المساجد، والكنائس، والمدارس، وبيوت العجزة في العراق وأفغانستان بالقنابل القذرة (الوقود النووي المُستنفذ) ومع ذلك تصرخ بإعلامها المميّع والمشوّه للحقائق والمزوّر لها وبأدوات التمويه التي يرفضها المنطق ويأباها الضمير إنها مصابة من الإرهاب. أميركا برؤسائها جورج بوش وجورج الإبن ودونالد ترامب وهم كلهم من المحافظين الجدد، وما أكثر مثلهم، ويظنون في ادّعاء لا مصداقية فيه أنهم يؤدّون الحماية للعالم كله نيابة عن كل المتخلّفين أخلاقياً وحضارياً. مع أنهم يقومون بسياسة المواجهة مع الواقع ومع البشرية كلها حفاظاً على مصالح أميركا ولو انهار العالم كله،حتى أن هناك من المثقّفين الأميركيين مَن يؤكّد على أن ظاهرة "بوش الأب وبوش الإبن هي ظاهرة استنساخية لتلك الأحداث التي بنيت الولايات المتحدة الأميركية على أنقاضها. المؤرّخ بول كنيدي يقول بهذا، والكاتب المُبدع ناعوم تشو مسكي وبصوت مرتفع يؤكّد هذا. لكن ما عسى أميركا أن تفعل وقد تخلّصت من قيمها وأخلاقها باستثناء الشر، وماذا إذن تفعل مع حكّامها والذين يدّعون الوصاية المطلقة على الضمير العالمي. لقد صارت للوثنية محطات سياسية يؤمّها المدّعون التديّن على المذهب الوهّابي في الخليج وهم يسخرون من الملأ الأعلى باسم الدين أحياناً وباسم الديمقراطية أحياناً أخرى.
في حرب اليمن اليوم وهم فاعلون فيها تعبد الجغرافية السياسية باسم الحروب ضد الحوثيين وكأن الحوثيين جاؤوا من غير هذا الكون والصحيح أن الذين جاؤوا للحرب هناك هم بقايا صراع الأوهام ووثنية البترول والغاز في منطقة ذات بُعد استراتجي تتصارع حولها قوى عالمية. وليس ذلك فقط أنهم يتقرّبون بأموالهم لأميركا، وأغلب التقرّب هذا مبني على سوء تقدير، إن للسياسة أو للتاريخ. لكن ربما وثنية الجاهلية أرحم لأنها تحترم أماكن العبادة، فلم يكن فيها من يأخذ بالثأر من القاتل إذا تعلّق بأستار الكعبة، يفعلون ذلك تعظيماً لها، وطائفية اليوم قتل جماعي، وحرق لكل شيء بما فيه المصحف الشريف قصاصاً لسياسة فاشلة أو حكم بالظن بائس. هل الإسلام يقرّ الطائفية، أو يدعو إلى المذهبية والعصبية؟ أم أنه ينهى عن التعدّي وتحريم لما هو محرّم؟ بالتأكيد الإسلام مساحة كبرى للتسامح حتى مع الطير والحيوان وما يجري في اليمن من خراب وقتل وتدمير وتجويع هو حصيلة سياسة فاشلة لأميركا وإسرائيل، وللفاعلين فيها بالوكالة وبالتالي فإن الحرب فيه هي حرب عبثية ضد الآخر، مع أن التسامح الديني هو الأساس واحترام الرأي الأخر من وعي الضمير، ولا يجوز بالتالي هنا السمع إلى أية دعوة تدعو إلى حرب طائفية حرّمها الله وإذا كان البعض أعلنها حرب اللغز الملفوف وإن لم تكن واضحة وصريحة للعيان. فهذه الفجوات في سياسة بعض الحكّام هي خرق مُمنهج لمنطق قوّة الإسلام وبداية لتكريس الفجوات الكبرى فيه كحلقات متلاحقة في الجسم الإسلامي من ليبيا، إلى سوريا، إلى اليمن؟ سؤال مهم، لكن مع ذلك فإن مساحات الظل والضوء سوف تتجلّى عن رقعتها بالتأكيد.