- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
من اخلاقيات النهضة الحسينية في الحرب (2)
حجم النص
بقلم | مجاهد منعثر منشد في اليوم التاسع من محرم عندما أقبل شمر لمعسكر الحسين (عليه السلام). في يوم التاسع من محرم أقبل شمر بن ذي الجوشن على معسكر الامام الحسين (عليه السلام) وكان من اخوال أخوة الحسين ابناء ام البنين ,فنادى: أين بنوأختنا ؟ ,فاستنكروا الرد عليه. فالتفت اليهم الامام الحسين (عليه السلام) ,وقال:أجيبوه ,وان كان فاسقا فأنه من اخوالكم.فاقبلوا يسألونه حاجته ,فقال: انتم يا بني اختي أمنون.لكنهم رفضوا امانه. ويلاحظ في هذه الحادثة تفعيل عنصر سمو الاخلاق متبادل بين ابناء أم البنين الذين رفضوا في البداية الاستجابة للشمر من اجل عدم جرح مشاعر الامام الحسين (عليه السلام) ,والامام أبي عبد الله (سلام الله عليه) الذي اكد على مسالة صلة الرحم من خلال طلبه منهم ان يستجيبوا له وان كان فاسقا ,وايضا اعطى درس أخلاقي للمعسكرين في المسالة المذكورة ,وايضا لا مانع من المحاورة مع الاعداء في الحروب لعل الخصم أن يهتدي او ينتبه انه على خطأ ,فلا يوجد أقوى من عرض الامان في معركة مصيرها معروف. وهنا الامام (عليه السلام)فسح المجال لتفكير العدو بأن هذا العرض مرفوض ,فعليه ان يفكر بسبب الرفض ليصل الى نتيجة بأن معسكر الحسين على حق وهو على باطل. ويلاحظ ايضا في الحادثة تفعيل مسالة اخلاقية مهمة جدا هي عدم استغلال هذه المحاورة من أجل البدا بالقتال او الغدر بالعدو وقتله , فالحسين (عليه السلام) وقبل الحرب كان يعلم اصحابه وانصاره على مبدا (رفض الغدر بالعدو) ,فهذا ما حدث عندما رفض مسلم بن عقيل أن يغدر بعبيد الله بن زياد مع أن هذا الأمر كان أمراً مهماً وربما يغير مجرى التاريخ، مع ذلك رفضه مسلم بن عقيل لأنه يتنافى مع مبادئه ,فيذكر السيد عبد الرزاق المقرم في كتابه مقتل الحسين: أن شريك بن الأعور نزل في دار هاني بن عروة لمواصلة بينهما ولما مرض أرسل إليه ابن زياد: أني عائد لك، فأخذ شريك يحرض مسلم بن عقيل على الفتك بابن زياد وقال له: إن غايتك وغاية شيعتك هلاكه فأقم في الخزانة حتى إذا اطمأن عندي أخرج إليه واقتله وأنا أكفيك أمره بالكوفة مع العافية. وبينا هم على هذا إذ قيل: الأمير بالباب، فدخل مسلم الخزانة ودخل عبيد الله ,فلما استبطأ شريك خروج مسلم أخذ عمامته من على رأسه، ووضعها على الأرض ثم وضعها على رأسه فعل ذلك مرارا ونادى بصوت عال يسمع مسلما: ما الانتظار بسلمى لا تحيوها حيوا سليمى وحيوا من يحيها هل شربة عذبة أسقى على ظماء ولو تلفت وكانت منيتي فيها وإن تخشيت من سلمى مراقبة فلست تأمن يوما من دواهيها وما زال يكرره وعينه رامقه إلى الخزانة ثم صاح بصوت رفيع: إسقونيها ولو كان فيها حتفي، فالتفت عبيد الله إلى هاني وقال: إن ابن عمك يخلط في علته ؟ فقال هاني: إن شريكا يهجر منذ وقع في علته وأنه يتكلم بما لا يعلم. فلما ذهب ابن زياد وخرج مسلم قال له شريك: ما منعك منه ؟ قال مسلم: قال: منعني خلتان: الأولى: حديث علي (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الإيمان قيد الفتك فلا يفتك مؤمن. الثانية: امرأة هاني فإنها تعلقت بي وأقسمت علي بالله أن لا أفعل هذا في دارها وبكت في وجهي، فقال هاني: يا ويلها قتلتني وقتلت نفسها، والذي فرت منه وقعت فيه. وكما نرى هذه أخلاق اصحاب الامام (عليه السلام) ,فكيف بالحسين استاذ تعليم الاخلاق ؟ وقد كان بمقدور الامام(سلام الله عليه) ان يمنع ابناء ام البنين ,او يوصيهم بقتل شمر اثناء اللقاء والحديث , لكنه (عليه السلام)تأبى أخلاقه هذه التصرفات حتى في المواقف الصعبة. 3. في صبيحة العاشر من محرم عندما اراد مسلم بن عوسجه رمي العدو. فعندما أقبل معسكر يزيد وجيشه يجولون حول خيام الحسين، فيرون الخندق في ظهورهم والنار تضطرم في الحطب والقصب الذي كان القي فيه. وعندما نادى شمر بن ذي الجوشن بأعلى صوته: يا حسين أتعجلت، بالنار قبل يوم القيامة ؟ فقال الحسين (عليه السلام): من هذا كأنه شمر بن ذي الجوشن ؟ فقالوا: نعم. فقال له: يا بن راعية المعزى أنت أولى بها صليا. في هذه الحادثة اراد مسلم بن عوسجة وهو من معسكر الامام الحسين (عليه السلام) أن يرمي شمرا بسهما , فقال مسلم للأمام : دعني حتى أرميه فإن الفاسق من أعداء الله وعظماء الجبارين، وقد أمكن الله منه. قال له الحسين (عليه السلام): لا ترمه فاني أكره أن أبدأهم بقتال ثالثا: أخلاق الامام (عليه السلام) مع العدو من خلال الحوار. من المبادئ الاخلاقية الاسلامية السامية فسح مجال الحوار في الحروب ,فهذه المسألة يستفاد منها بعض التالي:ـ 1. حجة امام الله سبحانه تلقى على العدو قبل ان يقدم على الجريمة.وهذا ما حدث في واقعة الجمل في الحرب على أمير المؤمنين (سلام الله عليه) ,فعندما اوضح الامام للزبير نتيجة فعله وذكره بما قال له النبي (صلى الله عليه واله وسلم) بأنه سيقاتل علي وهو له ظالم انسحب الزبير من هذا الفعل. 2. لعل العدو لا يفهم ما سيقوم به ,فيوضح له الامام (عليه السلام)عاقبة فعله. 3. اسلوب للمفاوضة من أجل أيقاف نزيف أراقة الدماء. 4. دعوة للخصم من الامام بأنه (عليه السلام) ليس من دعاة الحرب. وهذه هي بعض فوائد الحوار ,فالأمام الحسين (عليه السلام) استخدم هذه المسألة الاخلاقية لعلها ان تجدي نفعها مع الخصم ,فقد حاور ابن سعد بالتي هي أحسن ,أذ أرسل الامام عمرو بن قرظة الأنصاري إلى ابن سعد يطلب الاجتماع معه ليلاً بين المعسكرين، فخرج كلّ منهما في عشرين فارساً، وأمر الحسين مَن معه أنْ يتأخّر إلاّ العبّاس وابنه علياً الأكبر، وفعل ابن سعد كذلك وبقي معه ابنه حفص وغلامه. فقال الامام: يابن سعد أتقاتلني؟ أما تتقي الله الذي إليه معادك؟! فأنا ابن مَن قد علمتَ! ألا تكون معي وتدع هؤلاء فإنّه أقرب إلى الله تعالى؟ قال عمر: أخاف أنْ تهدم داري. قال الامام: أنا أبنيها لك. فقال ابن سعد: أخاف أنْ تؤخذ ضيعتي. قال (عليه السلام): أنا أخلف عليك خيراً منها من مالي بالحجاز». فقال ابن سعد: إنّ لي بالكوفة عيالاً وأخاف عليهم من ابن زياد القتل. ولما أيس منه الحسين قام وهو يقول: «مالك، ذبحك الله على فراشك عاجلاً، ولا غفر لك يوم حشرك، فوالله إنّي لأرجو أنْ لا تأكل من بَرّ العراق إلا يسيراً». قال ابن سعد مستهزأ: في الشعير كفاية. رابعا: أخلاق الامام (عليه السلام) مع اصحابه واهل بيته في الحرب. تبرز الاخلاق الحقيقية عند القائد في المواقف الصعبة والحساسة كما ذكرنا مسبقا ,وابن بنت رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) لم يكن قائد او شخصية عادية ,بل كان حجة الله في أرضه , وسبط النبي (صلى الله عليه واله وسلم) ,والامام الموصى به ,والمنصوص عليه ,فعلى هذا هو مدرسة العطاء في الاخلاق. وهذه المدرسة المتكاملة تؤثر ولا تتأثر, وبنفس الوقت تحترم الانسان كانسان سواء بفكره أو في حقوقه. وفكر البشر متقلب كقلبه ,فعندما يسمع موقف يكون له رأي فيه ,وعندما يشاهد الموقف يكون راي أخر. ولكن أهل بيت الحسين (عليهم السلام) وأصحابه الذين كانوا معهم يختلفون عن باقي البشر حيث لا يتقلبون في المواقف الا ما ندر. وأما ما ندر ,فنقصد الاشخاص الذين خانتهم الارادة فكانوا في ذلك الموقف ,فتحولوا الى الموقف المحايد. ونعتقد بسبب هؤلاء المحايدين كان راي الامام (عليه السلام) أن يتعامل مع جميع المتواجدين معه بخطاب أخلاقي واحد بدون تميز يحمل بين ثناياه الشفافية ونتيجة البقاء معه ,ووضوح مصير الجميع. والامام (عليه السلام) بسبب سمو ورفعة أخلاقه لم يبخل على أهل بيته واصحابه بالخطاب مره واحد فحسب ,بل تكرر الخطاب مرات عديدة من خروجه المدينة الى كربلاء قبل مقتله بليلة واحد وحتى صباح العاشر من محرم. وفي ذلك الخطاب يركز على مسألة أخلاقية وإنسانية بحته جدا هي حرية اتخاذ القرار,فتقدير منح الاخرين حرية القرار ليس بالأمر الهين ,فالموقف حساس والامام (عليه السلام) بحاجة لكل الافراد من الجماعة في المعسكر. قرار البقاء أو الانصراف للجميع أ. نموذج اخلاقي في المسير من مدينة جده الى كربلاء (بطن العقبة). أشرنا الى لفظ الشفافية والوضوح في المصير , فعندما سار(سلام الله عليه) من زبالة حتّى نزل بطن العقبة وفيها قال لأصحابه: «ما أراني إلاّ مقتولاً، فإنّي رأيت في المنام كلاباً تنهشني، وأشدّها عليَّ كلب أبقع». ثم قال (عليه السلام): «إنّهم لَن يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جَوفي، فإذا فعلوا ذلك سلّط الله عليهم مَن يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ فِرَق الاُمم». وهنا يكشف ابي عبد الله (عليه السلام) عن المصير المحتوم الذي ينتظره ,فيمهد لخطابة القادم. ب. قبل مقتله بليلة واحده. الامام (عليه السلام) قد خير اصحابه أكثر من مرة في اللحوق به او التخلي عنه ,فكان (عليه السلام) يردد هذه العبارات:ـ ليس عليكم مني ذمام, فانطلقوا في حل ليس عليكم مني ذمام ,هذا الليل قد غشيكم ,فاتخذوه جمالا. وكان ذلك قريب المساء ,أذ جمع اهل بيته واصحابه ,فخطب..واُثني على الله أحسن الثناء وأحمده على السرّاء والضرّاء، اللهمّ إنّي أحمدك على أنْ أكرمتنا بالنبوّة، وعلّمتنا القرآن وفقّهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدةً، ولَم تجعلنا من المشركين. أمّا بعد، فإنّي لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي جميعاً. وقد أخبرني جدّي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّي سأساق إلى العراق فأنزلُ أرضاً يقال لها عمورا وكربلاء، وفيها اُستشهد. وقد قرب الموعد. ألا وإنّي أظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً. وإنّي قد أذِنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلّ ليس عليكم منّي ذمام. وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً خيراً! وتفرّقوا في سوادكم ومدائنكم، فإنّ القوم إنّما يطلبونني، ولَو أصابوني لذهلوا عن طلب غيري. وبهذا الخطاب الاخلاقي النوعي يأذن الامام (سلام الله عليه) لجميع من في معسكره بالانصراف ولا اشكال شرعي على أحد منهم ,وهنا يظهر معدن الاخلاق الحقيقي من الاهل والاصحاب بالإصرار على البقاء معه (عليه السلام),ولكن القائد لم يعبر عن اصرارهم بالفرح والسكوت ,بل واصل العطاء الاخلاقي في الحرب ليكشف لهم عن المصير قائلا: ((إنّي غداً اُقتل وكلّكم تقتلون معي ولا يبقى منكم أحد)) ,فكانوا ضمائرنا حره وحيا.