حجم النص
بقلم:عباس عبد الرزاق الصباغ فرضت مآلات المشهد العراقي المأزوم والمتشابك جملة خيارات صعبة وحادة على المرجعية الدينية العليا، كان أحلاها مرا علقما فهي ـ أي المرجعية ـ من جهة يتحتم عليها بحكم تراتب مسؤولياتها التاريخية المناطة بها أن لاتترك الساحة خاوية من مرجعية تراقب الميدان عن كثب وتبحث في حيثيات تلك المآلات وأسبابها ونتائجها سواء السياسية منها أم الاقتصادية والمالية أم الأمنية ام المجتمعية والمعيشية والبيئية وغيرها من التي تعتور المشهد العراقي وأثرها على الساحة العراقية، فالمرجعية لاتذر شاردة او واردة لها تماس مباشر بالواقع العراقي المعاش إلا وأشارت اليها ووضعت بصماتها التحليلية والنقدية ومن ثم الإرشادية الأبوية بطرح هادف وعقلاني ووسطي وبحسب منطق (وجادلهم بالتي هي أحسن). ومن جهة اخرى بما أن المرجعية الدينية العليا هي مرجعية ميدان استوجب الأمر عليها أن تقدم الحلول الناجعة للقضايا قيد الطرح وبما تراه حكمتها واعتدالها ووسطيتها نافعا وناجعا وذلك بإبداء رأيها السديد تاركة لذوي الاختصاص او المعنيين مسؤولية البحث عن القرار الصحيح والآلية النافعة للقضايا التي تتناولها المرجعية من خلال المحور الثاني (السياسي) من خُطب الجمعة التي يلقيها نيابةً ممثلا المرجع الاعلى (دام ظله) في الحضرة الحسينية الشريفة من كل يوم جمعة وعلى التوالي منذ التغيير النيساني والى ان قررت المرجعية مؤخرا تعليق إبداء رأيها في هذا المحور من الخطبة الى اجل غير مسمى والاكتفاء بمايُستجد من أمور فقط فكان قرارها هذا من أصعب القرارات المهمة التي اتخذتها طيلة هذه الفترة . فلا حاجة لتكرار الحديث عن مساهمات المرجعية كمرجعية ميدان في حيثيات الشأن العراقي ابتداءً من موقفها من الاحتلال الأمريكي للعراق ووضع البذور التأسيسية الاولى للدولة العراقية المعاصرة ووضع اللبنة الأولى لتشكيل حكومة عراقية وطنية منتخبة (ورشيدة)، وليس انتهاءً بالموقف التاريخي الذي سجلته بعد أيام قلائل من الغزو الداعشي للأراضي العراقية وبعد أن استشرفت آفاق المستقبل ووصلت الى نتيجة بان هذا الغزو ليس مؤقتا او مرحليا ولن يتوقف في حدود الأراضي التي سيطر عليها في بداية اجتياحه للعراق واحتلاله ثاني اكبر مدينة إستراتيجية فيه وتوصلت الى ان العراق كدولة ووجود ومرتكزات حضارية وبشرية مهدد بالسقوط والاضمحلال والتلاشي لذا أطلقت فتوى الجهاد الكفائي التاريخية.. الفتوى التي حفظت وجود العراق الذي كان مهددا بين أن يكون او أن لايكون، وغيرها من المواقف التي تسجل للمرجعية العليا كأرشيف وطني، كما سعت وعبر خُطبها وتوصياتها المستمرة الى تقويم مسار العملية السياسية المتعثر والعمل الحكومي وإنهاء متلازمة الفساد والمحاصصة التي أصابت النظام السياسي عادّة إياها نقطة الشروع في الإصلاح والتغيير نحو واقع سياسي وخدمي وأمني جديد يعيد ثقة المواطن بالعملية السياسية، وقد كان يفترض بالنخب السياسية ان تستثمر وجود هكذا مرجعية لم تبخل بالمتابعة الدقيقة والواعية وإبداء النصح والإرشاد فقد كانت توجيهاتُها طيلة سني مابعد التغيير خارطةَ طريق نحو بناء دولة مدنية عصرية تدير دفتها حكومة رشيدة فلم يتحقق هذا فتلاشت آمالها (وتلاشت معها آمال الشارع ايضا) في العملية السياسية الجارية وخاب ظنها فيها وأيقنت بان كلامها طيلة هذه السنين لم يجد له آذانا صاغية فجاء قرار تعليق إبداء رأيها السياسي مدويا ومؤسفا للجميع، القرار الذي فُسر بعدة سيناريوهات لم ترقَ اغلبها الى أهمية وخطورة هكذا قرار في ظل الظروف المعقدة والشائكة التي يعيشها العراق، فقد فسره البعض بأنه "زعل" مؤقت "كزعل" الأب على أبنائه في حين فسره آخرون بأنه عبارة عن "انسحاب" تكتيكي من قبل المرجعية التي "نفضت" يدها من جميع الكتل السياسية تمهيدا لانتظار القادم الذي قد يحمل تغييرا ما، وفسره البعض المغرض بأنه يعد تغطية "لفشل" المرجعية بسبب عدم تجاوب السياسيين مع طرحها وضعف تأثيرها فيهم، وفسره البعض بأنه "صفعة " مدوية للسياسيين او تنبيه صارخ او (جرة إذن) لهم ...الخ المرجعية أوجزت امتعاضها وعدم رضاها بقولها الذي طرحته بفتور واضح (وفي السنوات الأخيرة بالرغم من قيام حكومات منبعثة من انتخابات حرة، إلا أن الأوضاع لم تتغير نحو الأحسن في كثير من المجالات)، وكان قد سبق لها أن كررت وحذرت في خُطبها أن صبرها له حدود، ولصبر الشعب حدود ايضاً بعد ان بُح صوتها، أقول: إن المرجعية الدينية العليا بكونها صمام الأمان ورمز الاعتدال ليس بوسعها ان تترك الحبل على الغارب دون ان تدلي برأيها السديد وان كان قد استنفدت كل ما تستطيع قوله وقالته وتجرعت مرارة اللامبالاة على مضض وليس بوسعها ان تترك الساحة العراقية فارغة في وقت مايزال الجميع يتطلع الى حاضرة النجف الاشرف بعد ان فقدوا ثقتهم في العملية السياسية برمتها فالمرجعية وان صمتت لفترة معينة او لهدف هي أدرى به تبقى مرتكز الثقة الوحيد للمواطن العراقي المغلوب على أمره، عسى ان يكون هذا الصمت المدوي جرس إنذار صاخبا للنخب السياسية التي خيبت آمال الشارع العراقي فيها. كاتب عراقي
أقرأ ايضاً
- كيف السبيل لانقاذ البلد من خلال توجيهات المرجعية الرشيدة ؟
- المرجعية وخط المواجهة مع المخدرات
- المرجعية الدينية.. مشاريع رائدة وطموحات واعدة