- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الأمام الحسين(ع) منهج للخلود /الجزء الرابع
حجم النص
بقلم: عبود مزهر الكرخي العباس رمز من رموز الخلود والإنسانية ونأتي إلى ملاحم خالدة يصنعها بطل مغوار الذي أعتبره ليس له مثيل في التاريخ إلا وهو أمامنا أبا الفضل العباس (ع) الذي سطر ملاحم وأقولها بحق لو وجدت في العالم الغربي لكان اسمه مذكور ومحفور في كل كتبهم وشواهدهم ونصبهم، فهذا أمامنا العباس (ع) حامل لواء الحسين (ع) والذاب عن أخيه في كل محنه والذي صورت بطولاته في ملاحم خالدة يعجز القلم عن وصفها أو الإحاطة بها في هذه الواقعة ولكن سوف نتطرق إلى الجانب الإنساني في هذه الشخصية الفذة والتي خلدت اسمه في واقعة الطف كأحد الأبطال الذين يشار لهم بالبنان والخلود وكشخصية حفرت أسمها بعمق في التاريخ الإنساني ولعبت دوراً أساسياً في ملحمة الطف وفي النهضة الحسينية وكواحد من أعظم بناة الإنسانية في واقعة كربلاء بعد أخيه الحسين(ع). فهاهم يأتون إليه من معسكر الأعداء بقيادة شمر اللعين ويطالبوه بالتخلي عن الحسين روحي له الفداء ويعطوه الأمان له ولإخوانه بحجة أنهم أخواله وهنا تتجسد المعاني الخالدة لإنسانية سيدي ومولاي أبي الفضل والتي لا ترتقي إليها أي شخصية من الأولين والآخرين حيث "لم تزل هذه الفضيلة نفسية أبي الفضل في جميع مواقفه عند ذلك المشهد الرهيب، لاسيّما حين بلغه كتاب عبيد اللّه بن زياد بالأمان له ولإخوته الذي أخذه عبد اللّه بن أبي المحل بن حزام، وكانت أُم البنين عمّته، وبعثه مع مولاه كزمان، فلمّا قدم كربلاء قال للعباس وإخوته: " هذا أمان من ابن زياد، بعثه إليكم خالكم عبد اللّه! فقالوا له: أبلغ خالنا السلام وقل له: لا حاجة لنا في أمانكم، أمان اللّه خير من أمان ابن سميّة ".(1) كيف يتنازل أبو الفضل للدنية وهو ينظر بعين غير أعين الناس، ويسمع بأُذنه الواعية غير ما يسمعونه، يشاهد نصب عينه الرضوان الأكبر مع " خلف النّبي المرسل "، ويسمع هتاف الملكوت من شتى جوانبه بالبشرى له بذلك كُلِّه عند استمراره مع أخيه الإمام. نعم، وجد " عباس المعرفة " نفسه المكهربة بعالم الغيب، المجذوبة بجاذب مركز القدّاسة إلى التضحية دون حجّة الوقت لا محالة، فرفض ذلك الأمان الخائب إلى أمان الرسول الأعظم".(2) ولكن يأبى ذلك الصنديد الفحل أبن الفحول العامري وأخوته أن ينولهم ما يريدونه وهو الذي اصطفاه أمير المؤمنين (ع) لكي يكون ناصر وحامل لواء أخيه يوم الطف عندما يكون وحيداً روحي له الفداء في كربلاء فأي تلاحم أخوي وإنساني بين الأخوة وأي تربية تربى بها ذلك البطل قمر العشيرة فهي مؤكدة من قبل أبيه وأخيه وأمه أم البنين. "لقد كان أبو الفضل (عليه السلام) أحد الأفذاذ العلويين الذين لم تكن المفاخر مزايا زائدة على ذاتّياتهم وإن مدحوا بآثارها ; لأنهم زبد المخض، حازوا شرف النبوّة، وفضيلة الخلافة،تتنضد بهم حمل العلم، وتعتدل موازين العمل، وتترنّح بهم صهوات المنابر. فكان سلام اللّه عليه متربّعاً على منصّة المجد، ومِلْءُ الندي هيبة، ومِلْءُ العيون بهجة، ومِلْءُ المسامع ذكره الجميل، ومِلْءُ القلوب محبة، وحشو أهابه علم وعمل، وحشو الردى سؤدد وشرف. وإن الإحاطة بما حواه من اليقين الثابت والبصيرة النافذة بأحد طريقين! الأوّل: سبر أحواله، ومواقع إقدامه وإحجامه، ومواضع بطشه وأناته، وموارد صفحه وانتقامه. ولا بدّ أن يكون المنقّب عند ذلك مميزاً بين مدراج الرأي ومساقط الخطل، بصيراً بمراقي الحلم ومهاوي البطش. والثاني: إخبار مَن وقف على ذلك، بمباشرة وافية، وعلم متسع، تم شكله وظهر إنتاجه، أو تعليم إلهي، أو أخذ عمّن له صلة بذلك التعليم. وغير خفي أنّ قمر بني هاشم ملتقى ذينك الطرفين، في البصيرة واليقين، في دينه وعقله، في معارفه وأخلاقه، في حلّه وارتحاله، وكان ينظر إلى جملة الأحوال بين البصيرة التي تخرق الحجب وتبصر ما وراءها من أسرار وخبايا، لا بناظر البصر الذي تحجبه الحواجز، وتمنعه السدول، فيرد عن الإدراك خاسئاً، فلا يكون أمر تهالك دونه إلاّ بعلم ثابت، ويقين راسخ، وإيمان لا يشوبه شك".(3) ولهذا أكتسب الأمام العباس(ع) العصمة ولكن ليس العصمة للأنبياء ولأئمتنا المعصومين (سلام الله عليهم أجمعين)وهي ماتسمى بالعصمة الصغرى ولنأتي الى العصمة ونتعرف عليها. العباس عليه السلام نموذج المأموم المعصوم: كما يكون هناك إماما معصوما حجة لله على الناس لاقتداء به، فالمأموم الذي يكمل معاني الطاعة والتأسي والاقتداء بالمعصوم ؛ فهو مأموم أسوة حسنة فيه حجة الله على خلقه، لان هناك من الناس من يرى إن التكامل مع المعصوم بالطاعة حالة مثالية أو أمر مستحيل أو غير ممكن أو يعتبر العصمة حال كمال كوني حصل للمعصوم نبيا كان أو إماما بأمر الله تعالى وتطهيره وإرادته واختياره، فكيف يجري ذلك لغيره ؟! وإذا كان للمتحذلق ان ينكر فضل الله تعالى ؛ ويقول إن الإمام المعصوم إلزام من الله تعالى ولطف لا يتجاوز حده في غير المعصوم المختار، بمعنى إن ليس للمعصوم الخيار في المعصية، فليس لأحد حق إن يقول ذلك في المأموم المعصوم مثل العباس عليه السلام، وليس لأحد إن ينكر فضل الله تعالى في هذا النموذج، فقد أمكن وكان كما العباس عليه السلام ولذا فهو بعين الله وعين الرسول وعين المعصوم نصت نصوص معصومة قيلت في العباس عليه السلام لم تقل في بشر من سائر الناس وعلى أئمة معصومين وهي معروفة للجميع. فالعباس إمام المأمومين وقدوتهم الميدانية العملية الحسنة في إتباع الإمام والوفاء له والطاعة والتسليم المطلق ومواساته وافتدائه بنفسه وكل ما يملك، طبقا لمنهج الأئمة والرسل عليهم السلام في رفض الظلم وبغض الظالمين وتوطيد القيم ونشر الفضائل، وفق منهج معصوم. "ارتضع أبو الفضل العبّاس عليهالسلام من اُمّ وفيّة، ووالدة كريمة منتمية إلى بيت كريم، وأسرة نجيبة، وذات عراقة وأصالة، ومجد وسؤدد، ألا وهي - كما عرفت - فاطمة بنت حزام الوحيديّة الكلابيّة المكنّاة بـ (اُمّ البنين)عليهاالسلام، وتربّى في أحضانها، وتروّى من إيمانها وولائها، وعلمها ومعرفتها؛ حيث إنّها كانت من الفاضلات العالمات. كما وترعرع في حجر والد كريم وسيّد عظيم، نفس رسول الله صلىاللهعليهوآله ووصيّه، وخليفته من بعده، وارث علم النبيِّين وسيّد الوصيِّين، وقائد الغرّ المحجّلين إلى جنات النعيم، الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليهالسلام. لقد كان أبو الفضل العبّاس عليهالسلام ملازماً لأبيه الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام أيام إقامته في المدينة المنورة، ثمّ هاجر معه عليهالسلام إلى العراق وأقام معه في الكوفة، وهو في كلّ ذلك تحت عنايته الشفيقة، ورعايته التربوية الحكيمة، فاكتسب من هذين الأبوين الكريمين كلّ مكرمة وفضيلة، وورث منهما بالتربية والوراثة المكارم والأخلاق الحميدة، والعلم الجمّ والمعارف الإلهية النبيلة.لم يناد العباس أخويه الحسن و الحسين عليهم السلام بالأخوة مع انه فعلا اخوهما، بل كان ينادي اي منهما بـ(يا أبن رسول الله أو يا سيدي)، إلا مرة واحدة يذكرها المؤرخون حين مصرعه".(4) فقد لازم أبو الفضل عليه السلام، أباه عليا عليه السلام معلم الانسانية الفضل، ثم أخويه السبطين ريحانتي رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحسن والحسين سيّدي شباب أهل الجنّة فكان يتلقّى منهما مباشرة قواعد الفضيلة عمليا، وأسس الآداب الرفيعة سلوكا ميدانيا في كل لحظة من اللحظات التي لازمهما، وقد رأى كيف واجه الإمام الحسن عليه السلام خذلان الأمة، بحكمة عالية وصبر جميل، وقد لازم عليه السلام بصورة خاصة أخاه أبا الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام)، فكان لا يفارقه في حله وترحاله، وقد تأثّر بسلوكه، وانطبعت في قرارة نفسه مثله الكريمة وسجاياه الحميدة حتى صار صورة صادقة عنه يحكيه في مثله واتجاهاته، وقد أخلص له الإمام الحسين كأعظم ما يكون الإخلاص وقدّمه على جميع أهل بيته لما رأى منه من الودّ الصادق له، حتى تفاداه مرة بنفسه عليهما السلام. وهو الإمام المعصوم. وهذه ميزة لم يحظ بها احد من الناس غير العباس عليه السلام. "إنّ المكونات التربوية الصالحة التي ظفر بها سيّدنا أبو الفضل العبّاس (عليه السلام) قد رفعته إلى مستوى العظماء والمصلحين الذين غيّروا مجرى تاريخ البشرية بما قدّموه لها من التضحيات الهائلة في سبيل قضاياها المصيرية، وإنقاذها من ظلمات الذلّ والعبودية. لقد نشأ أبوالفضل على التضحية والفداء من أجل إعلاء كلمة الحقّ، ورفع رسالة الإسلام الهادفة إلى تحرير إرادة الإنسان، وبناء مجتمع أفضل تسوده العدالة والمحبة، والإيثار، وقد تأثر العباس بهذه المبادئ العظيمة وناضل في سبيلها كأشدّ ما يكون النضال، فقد غرسها في أعماق نفسه، ودخائل ذاته، أبوه الإمام أمير المؤمنين وأخواه الحسن والحسين(عليهم السلام)، هؤلاء العظام الذين حملوا مشعل الحرية والكرامة، وفتحوا الآفاق المشرقة لجميع شعوب العالم وأمم الأرض من أجل كرامتهم وحرّيتهم، ومن أجل أن تسود العدالة والقيم الكريمة بين الناس".(5) ولهذا قال الشاعر عنه: وفي العبّاسِ من كرمِ السجايا***كثيرٌ ليس يحصرُ في مقالِ وفاءٌ، نجدةٌ، زهدٌ، وعلمٌ***وإيثارٌ، وصدقٌ في المقالِ عـفافٌ ظاهرٌ، حلمٌ وجودٌ***وبـأسٌ صادقٌ عندَ النزالِ.(6) وممّا يزيدنا بصيرة في عصمته ما ذكره عنه قول الصادق: " لعن اللّه أُمة استحلّت منك المحارم وانتهكت في قتلك حرمة الإسلام ". فإنّ حُرمة الإسلام لا تنتهك بقتل أي مسلم مهما كان عظيماً، ومهما كان أثره في الإسلام مشكوراً، إلاّ أن يكون هو الإمام المعصوم، فلو لم يبلغ العبّاس المراتب السماوية في العلم والعمل لمقام أهل البيت لما استحقّ هذا الخطاب، وهذا معنى العصمة. نعم، هي غير واجبة، وممّا يستأنس منه العصمة له ما تقدّم من قول السجّاد (عليه السلام): " وإنّ لعمّي العبّاس منزلة يغبطه عليها جميع الشهداء يوم القيامة ".(7) موقف إنساني خالد في يوم الطف ونأتي إلى الواقعة التي لا أكاد كلما أذكرها اذرف الدموع والانحناء أجلالاً وأدباً وهيبةً أمام هكذا ملحمة يصنعها هذا البطل ألا وهي عندما طلب العيال والنساء الماء فأبى على نفسه وهو حاميهم وكفيلهم ألا أن يجلب لهم الماء وأنطلق إلى النهر وبالرغم من شدة اشتعال المعركة وهمجية معسكر الأعداء وقاتلهم كشف عن جانب المشرعة وهو وحده وكثرة معسكر الكفر ألا أن بطولته التي لا يضاهيها أحد وصل إلى نهر العلقمي وأراد أن يشرب الماء ومد يده الشريفة ليأخذ غرفة ولكن روحي له الفداء أبت نفسه الشريفة أن يضع هذه الغرفة في فمه وقال كيف أشرب الماء وأخي الحسين عطشان، ألا كان يستطيع شرب الماء وجلب الماء إلى معسكر الحسين؟ وهذه الصورة هي ليست أيثار فقط بل هي مواساة لأنه يواسي أخيه الحسين بعطشه ولا يقبل أن يغترف من نهر العلقمي "نعم لقد واسى أبو الفضل العباس (ع) أخاه الإمام الحسين (ع) مواساة عظيمة وأدى ما كان عليه من حقوق الإخوة مما استحق بها المدح من الإمام الصادق(ع)والثناء عليه بقوله:(فنعم الأخ المواسي). هذا وحيث كان كل هم أبي الفضل (ع) هو نصرة أخيه الإمام الحسين (ع) والذاب عنه وحمايته والدفع عنه استحق بسببه أيضا إطراء الإمام الصادق(ع)عليه والاعتزاز بقوله:(فنعم الصابر المجاهد المحامي الناصر والأخ الدافع عن أخيه). اجل لقد كان أبو الفضل العباس (ع) من عظيم إيمانه بالله ورسوله وأهل بيته وكبير تأدبه مع أخيه الإمام الحسين (ع) يرى نفسه - على ما كان عليه من فضل وعلم وشرف وسؤدد - جنديا صفرا تجاه قائد سماوي عظيم وعبدا رقا إمام مولى كريم. كيف لا والإمام الحسين (ع) حجة الله على خلقه والإمام المنصوب من عند الله تبارك وتعالى في بريته كما نص الرسول (ص) بذلك عليه وأبو الفضل (ع) هو من يعرف حق الحجة ولذلك كان العباس (ع) حتى في يوم عاشوراء لا يتصرف من عند نفسه ولا يجتهد برأيه بل كان يتعبد بكل الأوامر الصادرة إليه من مولاه وإمامه ويطبقها تطبيقا حرفيا بلا زيادة ولا نقصان من عنده وقد تجلى ذلك في موقفه ولقد تجلى ذلك في موقفه عندما جاء إلى الإمام الحسين (ع) يستأذنه في البراز ومقاتلة القوم الظالمين الذين لم يحفظوا حرمة رسول الله (ص) في ذريته ولم يراعوا شخصه الكريم بعد غيابه في أبنائه وأهل بيته لكن الإمام الحسين (ع) أبى إن يأذن له وقال: إن كان ولا بد فاطلب لهؤلاء الأطفال قليلا من الماء ".(8) فهل توجد صورة إنسانية أكثر من هذه أم هل توجد مثل هذا الموقف العظيم في كل تاريخ العالم الغربي أو العالم الإسلامي؟ لا أظن بالتأكيد لقراءتي كل ذلك وهل لو كان موجوداً عندهم ألا يقيمون الدنيا ولا يقعدونها حول مثل هذه البطولة والإنسانية النادرة ويدونوها في كل أعلامهم وكتبهم شاخصة للعيون وفي كل وقت وحين. ولنتطرق إلى ميزة مهمة في الأمام وهو السقاية والأمام العباس له الكثير من السقايات وهو يتأسى بحده عبد المطلب والذي كشف عن بئر زمزم وبنبينا الأكرم محمد(ص) في استسقاء قافلة أبو طالب في رحلته إلى الشام واستسقاء الرسول الأعظم في المدينة وهو يتأسى بجده أبو طالب(رض) عندما تذكر نبينا الأكرم عمه أبو طالب فقال الأمام علي شعراً عن لسان النبي إذ يقول: وأبيض يستسقى الغـمام بوجهـه***ثـمال اليتـامى عصـمـة لـلأرامـل(9) وكذلك بأبيه أمير المؤمنين(ع) الذي استسقى المسلمين يوم بدر وفي الحديبية ولهذا هو سليل هذه السلالة الكريمة من الأجداد والإباء الكرام ونحن سوف نورد هذه السقاية الواحدة للمثال لا الحصر والذي له أكثر من سبع سقايات. السقاية الأولى: وروي على ما في ثمرات الأعواد: أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام كان ذات يوم جالساً وحوله ابنا رسول الله صلىاللهعليهوآله وريحانتاه الإمامان الهمامان الحسن والحسين عليهماالسلام، وإلى جنبهم أبو الفضل العبّاس عليهالسلام، فعطش الإمام الحسين عليهالسلام، فعرف ذلك أبو الفضل العبّاس عليهالسلام، فقام وهو إذ [ ذاك ] صبي صغير وأقبل إلى الدار وقال لأُمّه اُمّ البنين: يا اُمّاه، إنّ سيّدي ومولاي الإمام الحسين عليهالسلام عطشان، فهل لي إلى إيصال شربة من الماء العذب إليه من سبيل؟ فقالت له اُمّه اُمّ البنين بشغف وشفقة: نعم يا ولدي. ثمّ قامت مسرعة وأخذت معها قدحاً وملأته بالماء العذب ووضعته على رأس ولدها العبّاس، وقالت له وبكلّ رأفة وحنان: اذهب به إلى سيّدك ومولاك الإمام الحسين عليهالسلام. فأقبل العبّاس عليهالسلام بالماء نحو الإمام الحسين عليهالسلام والماء يتصبّب من القدح على كتفيه، فوقع عليه نظر أبيه الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام ورآه قد حمل قدح الماء على رأسه والماء يتصبّب من القدح على كتفيه، تذكّر وقعة كربلاء فرقّ له، وقال وهو يخاطبه ودموعه تتقاطر على وجنتيه: ((ولدي عبّاس، أنت ساقي عطاشى كربلاء))؛ فسمّي من ذلك (السّقاء).(10) ومن هنا فأن السّقاية هي من المهام الشريفة والأفعال الخيرة والعظيمة في الإسلام وفي المسوغ الإنساني وقد وردت الكثير من الآيات التي تبين عظمة السقاية وكذلك في الأحاديث الشريفة والتي يمتدحها الله ورسوله وحبّذها القرآن والسنّة، قال تعالى:{ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ }.(11) وقال سبحانه:{ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً }.(12)وقال تعالى:{ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُوراً }.(13)وحتى الأنبياء خصهم بهذه الميزة العظيمة والسامية بالاستسقاء حيث يقول في محكم كتابه {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}.(14) وقال رسول الله صلىاللهعليهوآله: {أفضل الأعمال إبراد الكبد الحرّى}. يعني سقي الماء. وقال صلىاللهعليهوآله أيضاً: {أفضل الصدقة إبراد كبد حارّة، وأفضل الصدقة صدقة الماء}. وروي أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله كان يتوضّأ فمرّت به هرّة وأخذت تنظر إلى الماء، فقال صلىاللهعليهوآله: {أظنّ هذه الهرّة عطشى}. ثمّ قرّب الماء إليها فشربت الهرّة منه ثمّ توضّأ صلىاللهعليهوآله بفضلتها. والكثير من الآيات والأحاديث التي لايتسع لها المجال لذكرها.(15) وأم الإمام العباس فاطمة بنت حزام (أم البنين)التي أختارها أبا الحسن لنسبها الشريف ولكي تنجب له ولداً يحمل لواء الحسين ويدافع عنه عندما يكون وحيد في كربلاء واستشهد. وجاءت المأساة باستشهاد السقاء (ع) وكيف تم قتله بصورة وحشية وهمجية يندى لها الجبين وقد قطعت كفيه وقطعوا يمينه غيلة وغدر ومن وراء وارتجز الرجز المحبوب لكل شيعي من مذهب أهل البيت وهو: والله إن قطعتم يميني إنّي أحامي أبداً عن ديني وعن إمام صادق اليقين.(16) وهو الذي قال عندما وصل إلى المشرعة أي نهر العلقمي بعد ان كشف المشرعة وعن الجيوش المؤلفة هناك فلما أراد: أن يشرب غرفة من الماء، ذكر عطش الحسين وأهل بيته فرمى الماء: وقال على ما روى: يا نفس من بعد الحسين هوني***و بعده لا كنت أن تكوني هذا الحسين وارد المنون***و تشربين بارد المعين تالله ما هذا فعال ديني.(17) وملأ القربة: وحملها على كتفه الأيمن، وتوجه نحو الخيمة. ويعتبر هو الشخص الثاني والسند ألأساسي في إصلاح أمة نبينا الأكرم والذي حمل لواء أخيه الحسين(ع) ولم يتوان عن نصرة أخيه فهو السقاء و كفيل زينب، قمر العشيرة وباب ألحوائج الذي لم يخيب أحداً حين يدعوه ويقول (يا كاشف الكرب عن وجه أخيه الحسين أكشف كربي بحق وجه أخيك الحسين) وهذا ضريحه الذي يعانق الثريا والذي يبين مكانته العالية والسامية وحين دفنه علي السجاد(ع) سلم وترحم عليه وقال له نعم العم الصابر المجاهد في نصرة أخيه وهو الفحل ابن الفحول والذي شارك في كل معارك أبيه أمير المؤمنين. وجاء إليه أخيه الحسين(ع) بعد عرف أن حزام ظهره قد أنقطع باستشهاده وأراد أن ينقله إلى معسكره ولكنه سيدي العباس(ع) طلب عدم نقله لأنه يستحي أن يرجع إلى العيال ولم يأتي أليهم بالماء فما هذه الصورة الشامخة التي رسمها لنا مولانا أبا الفضل(ع) أم ما هي الكتابات التي يجب أن تكتب وبحروف من نور حول هذا الموقف الفريد من نوعه في كل أسفار التاريخ وكل مواقفه الأخرى؟ ألا حري بنا أن نمجد هذه المواقف ونسجلها ونقول هذا تاريخنا وهذا أسفارنا فهل لديكم مثل هذه البطولات والملاحم الإنسانية. وليبقى ضريحه الشريف في المشرعة عند نهر العلقمي ليحمل ألقاب السقاء وساقي عطاشى كربلاء وحامي المشرعة خالدة في سفر هذه الشخصية العظيمة والتي أصبحت باب من أبواب الحاجة إلى الله. وليبقى هذا القمر الزاهر قمر بني هاشم خالد في سفر التاريخ ليتألق ويشع بكل الأنوار الآلهية ولتكتب كل حياته وتضحياته وملاحمه بأحرف من نور وليكون دليل ومنهج لكل الأحرار والثوار وعلى مدى الزمان وتكون سيرته العطرة سيرة يتأسى كل الشرفاء في العالم ليمثل أحد الصروح المهمة والعلامة المميزة في التاريخ الإنساني المجيد. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المصادر: 1 ـ تاريخ الطبري 4: 314، الكامل في التاريخ 4: 56. 2 ـ كتاب العبّاس (عليه السلام) للسيّد عبد الرزّاق المقرّم. تحقيق سماحة الشيخ محمّد الحسّون. ص 175. 3 نفس المصدر. ص 163. 4 ـ نفس المصدر. الخصيصة السابعة ص 79. 5 ـ كتاب العباس بن علي عليه السلام رائد الكرامة والفداء في الإسلام. الشيخ باقر شريف القريشي. باب ولادته ونشأته. مكتبة كاسر الصنمين. 6 ـ كتاب الخصائص العبّاسيّة لمؤلّفه الحاج محمّد إبراهيم الكلباسي النجفي انتشارات المكتبة الحيدريّة. الخصيصة السابعة ص 81. 7 ـ الأمالي للشيخ الصدوق: 548، الخصال: 68، بحار الأنوار 22: 274، والنصّ: " وإن للعبّاس عند اللّه تبارك وتعالى منزلة عظيمة، يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة ". 8 ـ كتاب الخصائص العباسية ص 102 ـ 103 9 ـ تاريخ الخميس ج2 ص14 وراجع: مناقب أمير المؤمنين للكوفي ج1 ص82 والمصنف للصنعاني ج7 ص92 و 431 وعن فتح الباري ج2 ص425 و 426 وسبل الهدى والرشاد ج9 ص440 و 444 والسيرة الحلبية ج3 ص234 وبحار الأنوار ج20 ص300 والأحاديث الطوال ص71 وكتاب الدعاء للطبراني ص597 وراجع: المعجم الأوسط ج7 ص321. 10 ـ كتاب الخصائص العبّاسيّة لمؤلّفه الحاج محمّد إبراهيم الكلباسي النجفي انتشارات المكتبة الحيدريّة. الخصيصة السابعة ص 111. 11 ـ [الحجر: 22]. 12 ـ [المرسلات: 27]. 13 ـ [الإنسان: 21]. 14 ـ [البقرة: 60]. 15 ـ كتاب الخصائص العبّاسيّة. الخصيصة السابعة ص 117. 16 ـ مناقب ابن شهراشوب:108/4.تسمية من قتل مع الحسين بن علي عليهما السلام: 149رقم 2. تسلية المجالس وزينة المجالس جـ 2 ص 309. 17 ـ مقتل الحسين (ع)- أبو مخنف الازدي ص 179.
أقرأ ايضاً
- سطوة الإعلام الممنهج
- الغدير بين منهج توحيد الكلمة وبين المنهج الصهيوني لتفريق الكلمة
- عْاشُورْاءُ - الجزء الرابع عشر